الصفحة الرئيسية > رأي > من يحكم ليبيا بعد مقتل القذافي ؟

من يحكم ليبيا بعد مقتل القذافي ؟

الجمعة 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2011


د. خالد حنفي علي

لا يمكن فصل مستقبل الدولة الليبية، في مرحلة ما بعد مقتل العقيد الليبي معمر القذافي، عن القوى الداخلية والخارجية التي أسهمت في إسقاط نظامه وإعلان تحرير ليبيا ، حيث إنها ستلعب دورا مؤثرا في تشكيل مستقبل هذا البلد.

فقد اتسمت الثورة الليبية بخصائص لم تتكرر في الربيع العربي، على الأقل حتى الآن، لعل أبرزها : حالة العسكرة التي فرضت على الثورة، فاتخذت شكل حرب أهلية، والإسهام الفعال لقوات الناتو في إسقاط نظام القذافي، فضلا عن اختفاء البنية السياسية التحتية للنظام الجماهيري أو تفتتها، سواء أكانت مؤسسات عسكرية أم سياسية، بما يشير إلى أن التحدي الرئيسي في المرحلة الانتقالية لا يتعلق ببناء نظام سياسي فحسب، وإنما صياغة دولة جديدة على أسس مختلفة.

ولئن أزال نجاح الثوار في دخول طرابلس سيناريو التفتت المناطقي للدولة الليبية الذي لاح في الأفق، إثر استمرار الحرب الأهلية أكثر من ستة أشهر، فإن ذلك السقوط السريع لطرابلس، ثم مقتل القذافي، فتحا الباب أمام تساؤل كبير، هو من سيحكم ليبيا بعد القذافي؟. إذ إن الثورة الليبية أخرجت إلى السطح قوى مختلفة التوجه (إسلامية، ليبرالية، ملكية)، فضلا عن قوى دولية كالناتو تلاقت مصالحها على إنهاء حكم القذافي، دون اتفاق علي هوية الدولة وإدارة النظام السياسي.

ورغم أن المجلس الانتقالي الليبي صاغ خريطة طريق للمرحلة الانتقالية، عبر وثيقة دستورية مؤقتة تضمنت 37 مادة لتسليم السلطة والانتخابات البرلمانية، فإن ثمة التباسات وتحديات جسيمة أمنية وسياسية تلقي بظلالها علي المشهد الليبي، بما يدفع إلى محاولة فهم طبيعة القوى التي ستسهم في تشكيل مستقبل ليبيا، واحتمالات التوافق والخلاف المصالحي المتوقع فيما بينها.

 أولا- سقوط اللا الدولة:

لا غرو في القول إن ثمة علاقة غير مباشرة بين طبيعة شخصية القذافي والخصائص الجيو استراتيجية للدولة الليبية. فالزعيم الليبي الراحل ظل طوال 42 عاما من حكمه ينظر لنفسه علي أنه "مسيح مخلص" يستدمج في ذهنه شخصية صلاح الدين الأيوبي، لكن لم يصل إلي قدرات روبين هود، كما يقول الباحث الأمريكي وليم زارتمان الباحث الأمريكي، في دراسته الشهيرة عن السياسة الخارجية الليبية.

مشكلة القذافي هي الفجوة بين أحلامه وقدراته الحقيقية، وهي ذات المعضلة الجيواستراتيجية للدولة الليبية، إذ إنها تعاني خللا هيكليا بين مساحة جغرافية مترامية الأطراف، وموارد هائلة، مقابل ضعف سكاني، وعدم كفاءة الجيش، وضعف فكرة الدولة ذاتها.

بيد أن القذافي الذي ظن أنه بمغامراته الخارجية سيحل معضلة الدولة، عمقها، بل وسمح بتكريس اللا دولة، عبر محاولته التماهي معها، بدلا من إقامة وظائفها ومعالجة الخلل. إذ صاغ نظاما سياسيا هشا انطوى على فكرة فلسفية يوتوبية، قوامها أن الشعب يستطيع الحكم مباشرة بنفسه عبر بنية سياسية (مؤتمرات، ولجان شعبية ولجان ثورية).
غير أن الأمر تحول إلى ما يشبه "الضيعة السياسية"، إذ هيمن القذافي على مقدرات وموارد الدولة، ظانا نفسه أشبه بمرشد الثورة الذي لا يخضع للحساب، بينما لم يشارك المجتمع، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وبذلك حدث "انسداد هيكلي" في بنية المجتمع الليبي، إذ تم منع ظهور أية قوى سياسية أو حزبية بشكل رسمي.

وبموازاة التجريف السياسي للدولة الليبية، أطلق القذافي العنان لأبنائه، ولاسيما في العقد الأخير، لأن يحلوا محل مجلس قيادة الثورة، الذي تم إقصاء غالبية أعضائه. فسيطر الأبناء على الملفات الرئيسية في البلد. فسيف الإسلام، الذي نظر له سابقا على أنه وجه إصلاحي، هيمن على ملف السياسة والإصلاح في مؤسسات الدولة، بينما سيطر معتصم وخميس والساعدي علي الملفات الاقتصادية والأمنية.

كما استطاع القذافي، ابن قبيلة القذاذفة في سرت، استثمار التحالفات القبلية في دعم نظامه وإضعاف الدولة، وتحييد الحركة السياسية داخل المجتمع. ولعل القبائل لعبت دورا في قمع الاعتراضات الطلابية في السبعينيات، كما شكل الزعيم الليبي ما يسمي بـ "الإدارة الشعبية الاجتماعية" في عام 1993، لاحتواء شيوخ القبائل، عبر إيلاء أدوار سياسية ومجتمعية لهم.

ولأن الدولة تحولت إلى "ضيعة خاصة"، لذا فإن الإيرادات الضخمة من النفط التي تجاوزت الـ 66 مليار دولار، في تقرير للبنك الدولي في عام 2010، غالبا ما وزعت على أجنحة النظام والقبائل المؤيدة للقذافي. لذلك، كان الفارق شاسعا بين ليبيا ودول الخليج، برغم اشتراكهما في العامل النفطي، إذ وصل متوسط دخل الفرد في قطر إلى 73 ألف دولار، بينما لا يزيد في ليبيا على 14 ألف دولار، وهو رقم محدود قياسا بثروات البلاد ومحدودية السكان، إذ لا يزيدون على 6.5 مليون نسمة، كما تعاني ليبيا نسبة بطالة تصل إلى 30% في مجتمع غالبيته من الشباب.

أما المؤسسة العسكرية، فقد عمد القذافي، على مدى عقود حكمه، إلى إضعافها، خوفا من أن تكون أداة التغيير السياسي في المجتمع، بعد هيمنته علي القوى القبلية والمدنية. لذا، بدا الفارق واضحا بين المؤسسة العسكرية المصرية ذات الطابع الوطني التي لعبت دورا في حماية ثورة 25 يناير، والمؤسسة العسكرية الليبية التي تتشكل من ولاءات عشائرية وقبلية وغالبية قياداتها من المقربين للقذافي، لذا انقسمت على نفسها مع إطلاق ثورة 17 فبراير من بنغازي.

ولم يتورع القذافي عن جعل المؤسسة العسكرية الليبية أشبه بحالة الميليشيات الشعبية، لأنه يؤمن بأن السلاح يجب أن يكون في أيدي الشعب، لذا حل الجيش الليبي بعد هزيمته في تشاد، وأعاد تشكيله على أسس ولائية مرتبطة به، تحت مبررات جماهيرية السلاح. وإن كان البعض قد عزا القرار آنذاك إلى خوف القذافي من الاستياء داخل صفوف المؤسسة العسكرية، وأن ثمة مؤشرات على الانقلاب ضده.

ويشير ذلك إلى أن أربعة عقود من حكم القذافي أضرت بشدة بفكرة الدولة الليبية ووظائفها، لذا لم يخطئ بعض المحللين، عندما قالوا إن الثوار الذين استثمروا حالة العدوى والنفاذية في الربيع العربي عليهم أن يبدأوا من نقطة الصفر في بناء الدولة الليبية بعد القذافي.

 ثانيا- القوى الداخلية:

تضافرت قوى داخلية لإسقاط نظام القذافي ، ومن المنتظر أن تسهم تلك القوي في تشكيل مستقبل الحكم في البلاد. ومن أبرزها:

1- المجلس الوطني الانتقالي:

تم تأسيسه رسميا في 27 فبراير 2011 في بنغازي، منذ الأيام الأولي لاندلاع الثورة على القذافي، واعترفت دول عديدة بهذا المجلس كـ "ممثل ليبيا" الوحيد. بيد أن تشكيلة المجلس الذي يقوم عليه مستقبل البلد نسبيا غير معروفة، فهو يتألف من 31 عضوا، معظمهم أطباء، ومحامون، وأساتذة، وأعضاء سابقون في حكومة معمر القذافي، لكن لا يعرف منهم إلا بضعة وجوه مثل مصطفي عبد الجليل، وزير العدل السابق الذي انشق على القذافي، ومحمود جبريل الذي يشغل حاليا رئيس المكتب التنفيذي في المجلس الوطني الانتقالي.

ورغم الميزة النسبية للمجلس، لاسيما علي صعيد وجود قيادة للثورة، فإن ثمة شكوكا في مدى تمثيله لكافة المناطق الليبية، لاسيما أنه تأسس قبل امتداد الثورة من بنغازي إلى الجبل الغربي ثم طرابلس، كما لم تكن القوى الإسلامية قد بزغت بقوة على السطح.

الأمر الآخر أن ثمة انشقاقات بدت واضحة، خاصة إثر اغتيال اللواء عبد الفتاح يونس، القائد العسكري للثوار، الذي لا يزال هناك غموض وتباين في الرؤى حول الواقعة، بين من يحمل المسئولية للثوار في الداخل، وآخرين يتهمون جهات خارجية، خاصة الناتو، باغتياله، بسبب خلافات عسكرية.

وقد سعي المجلس - الذي يسيطر عليه شخصيات من التيار الليبرالي لديها رغبة في تشكيل دولة مدنية ديمقراطية - إلى مواجهة تلك الشكوك حول تمثيله وقدرته علي السيطرة على زمام الأمور، بأن أصدر وثيقة دستورية مؤقتة، تنص علي تسليم السلطة إلى مجلس منتخب، وتبني دستور جديد، وتشكيل حكومة انتقالية مكلفة بتصريف شئون البلاد، وتنظيم انتخابات لاختيار "مجلس وطني"، في مهلة أقصاها 240 يوما، وسيكون المجلس برلمانا انتقاليا يضم مائتي عضو.

وسينسحب المجلس الانتقالي من السلطة، فور تولي المجلس الوطني مهامه الذي سينتخب رئيسا للحكومة خلال مهلة 30 يوما، على أن يعرض تشكيلة حكومته للحصول على ثقة البرلمان.

غير أن اقتراب المجلس من تشكيل حكومة ليبية مؤقتة كشف عن صراع محموم على السلطة، إذ طالبت قبائل ومناطق أخرى بعدم تهميشها وتمثيلها، كما طالب إسلاميون بحصة من حقائب الحكومة.

فقد شدد ممثلون عن التبو والجفرة وسبها (جنوب)، ومصراتة وطرابلس (غرب)، بالخصوص على ضرورة تمثيل مختلف المناطق تمثيلا عادلا في الحكومة والمكتب التنفيذي للمجلس، بيد أنه من الصعب تمثيل الجميع في حكومة ستضم على الأرجح 18 وزيرا فقط.

كما أن هناك بعدا آخر للصراع بين التيار الليبرالي (ويمثله محمود جبريل) الذي يرى البعض أنه رجل القوى الغربية، وحليف فرنسا على وجه الخصوص، وبين التيار الإسلامي، خاصة الشيخ علي الصلابي، المقيم في قطر، والذي انتقد جبريل، متهما إياه بارساء أسس دولة استبدادية.

2- القوى الإسلامية:

على اختلاف مشارب قادة وأفراد هذه القوى وجماعاتهم، بزغت قوتهم إلى السطح مع إطلاق الثورة الشعبية، مستندين إلى حالة العداء بينهم وبين نظام القذافي الذي قمعهم وسجن قياداتهم، إذ أسهموا بشكل ملموس في القتال علي الأرض ضد كتائب القذافي، خاصة في مناطق الشرق.

ويمكن تقسيم أبرز القوى السياسية الإسلامية إلى تيارات معتدلة تضم الإخوان المسلمين، وجماعات أخرى مسلحة كالجماعة الإسلامية المقاتلة.

الإخوان المسلمون حاليا عرفوا في البداية تحت اسم (الجماعة الإسلامية الليبية)، وهي امتداد للحركة الإسلامية التي أسسها حسن البنا في مصر، وبدأ نشاطها بعد قدوم عدد من المعلمين لإخوان مصر للتدريس في ليبيا. وتؤمن الجماعة بأن الإسلام دين ودولة، وغايتها إقامة نظام إسلامي بدلا منه، حيث ترى ذلك واجبا شرعيا.

أما الجماعة الليبية المقاتلة، فهي تنظيم مسلح يحمل فكر السلفية الجهادية، أنشأته مجموعة من الشباب الذين شاركوا في الحرب الأفغانية - السوفيتية، وقاموا بعمليات مسلحة في مواقع مدنية وأمنية في ليبيا في تسعينيات القرن العشرين، بهدف إسقاط النظام بقوة السلاح. وفي 18 أكتوبر 1995، صدر أول بيان بشأن الإعلان عن قيام الجماعة الليبية المقاتلة لإقامة الدولة الإسلامية، مستندين إلى قوة السلاح. ورغم أن نظام القذافي سعى لإجراء حوار مع عدد من قياداتها في السجون، خاصة في عام 2007 بمبادرة من سيف الإسلام القذافي، فإن الجماعة ظلت علي موقفها من النظام.

ولعل أكثر الشخصيات النافذة من الجماعة الإسلامية المقاتلة هو عبدالحكيم بلحاج الذي يقود حاليا المجلس العسكري للثوار. ورغم أن تصريحاته وحواراته تشير إلى أنه لا يحمل أجندة مضادة للغرب، وأنه يؤيد دولة مدنية ديمقراطية، فإن القوى الغربية عبرت عن قلقها، خاصة أنه تم اعتقاله على يد المخابرات الأمريكية، على خلفية ارتباط مفترض بتنظيم القاعدة، وتم تسليمه إلي ليبيا، وفر مع بداية الثورة.

غير أن بلحاج قال إن الجماعة الليبية المقاتلة تم حلها، وليس لها وجود حاليا على الأرض، على أساس أن أعضاءها انضووا تحت لواء "الحركة الإسلامية للتغيير"."

ورغم أن ذلك الفصيل لعب دورا في مرحلة الثورة عبر مقاتليه، فإنه على المدى الطويل، فإن جماعة الإخوان المسلمين تبدو القوة الأكثر تنظيما وقبولا، في مجتمع يرى الإسلام بنظرة معتدلة لا متشددة، لاسيما مع جذور الحركة السنوسية ذات الطابع الصوفي في المجتمع الليبي.

3- القوى القبلية:

مارست القبائل "التضامن الصامت" لمصلحة الثورة، خاصة في البداية، لاسيما أن قبائل الغرب، خاصة المقارحة، كانت مستفيدة من امتيازات نظام القذافي. إلا أن دورها كان فاعلا في إسقاط طرابلس، في إطار منظومة ثوار الغرب.

فرغم أن البعض يحاول إظهار أن دخول طرابلس جاء على وقع ضربات الناتو فقط، فإن ثمة دلائل على دور رئيسي للقبائل في إسقاط العاصمة. وهو لا يزال مثار جدل، إذ إن ثوار الغرب المنتمين للقبائل ليس لهم تمثيل في المجلس الوطني الانتقالي، ولديهم خلافات مع ثوار الشرق.

الأمر الأهم هو أن القبائل التي كثيرا ما دعمت في غالبيتها نظام القذافي (مناطق سرت، وترهونة، وبني وليد، وسبها، وغات، وغدامس)، لا يمكن إزاحتها من معادلة تشكيل الدولة، وإلا فلن يكون هنالك استقرار في ليبيا.

ولعل مطالبات القبائل بنصيب من الحكومة والمجلس التنفيذي للمجلس الوطني الانتقالي تشير إلى أنها ستكون لاعبا رئيسها في تشكيل معادلة الحكم بعد القذافي.

بخلاف هذه القوى الرئيسية، هنالك قوى لم تكن علي الأرض، وإنما مارست من الخارج ضغوطا إعلامية في الرأي العام العالمي وشبكات التواصل الاجتماعي لمصلحة الثورة، مثل معارضة المهجر في الولايات المتحدة وبريطانيا، والتي تنقسم بين قوى ليبرالية وإسلامية وملكية. وهي تتشرذم إلى أكثر من 25 حركة سياسية، منها: الحركة الوطنية الديمقراطية الليبية، والجبهة الوطنية من أجل إنقاذ ليبيا، أو حركة الكفاح الوطني الليبي، والاتحاد الدستوري ذو الاتجاه الملكي، وله أنصار في شرق ليبيا، وبدا ذلك واضحا في مسألة تبني علم الملكية مع بداية الثورة.

 ثالثا- القوى الخارجية:

تفردت الثورة الليبية ببروز العامل الخارجي، إذ فتح قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973، الصادر في مارس 2011 بحماية المدنيين بجميع الوسائل الممكنة، الطريق أمام حلف شمال الأطلسي (الناتو) لشن حملة قصف جوي لعبت دورا كبيرا في مساعدة المعارضة على الإطاحة بالقذافي.

ورغم أن حملة حلف الأطلسي -المدعومة أمريكيا- واجهت انتقادات قوية من روسيا والصين وبعض الدول النامية، التي قالت إن حملة الحلف تجاوزت التفويض الذي نص عليه قرار مجلس الأمن، فإن سقوط القذافي مثل نجاحا غير مسبوق للحلف، لاسيما مع التجارب السلبية للتدخل الدولي في أفغانستان والعراق، بما قد يكرس وجود الحلف في المنطقة.

ويمكن القول إن هنالك عدة قوى خارجية ستكون ضالعة في التأثير في شكل الحكم في ليبيا، أبرزها:

1- حلف شمال الأطلسي (الناتو). فرغم أن نظام القذافي سقط في طرابلس، فإن الحلف مدد مهمته لثلاثة أشهر، مبررا ذلك، على لسان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أندرس فوغ راسموسن، بأن عمليات الحلف في ليبيا، ستستمر "مادام هناك خطر" محتمل من قوات القذافي.

بيد أنه مع إعلان مقتل القذافي في سرت ، أعلن وزير الخارجية الفرنسي، آلان جوبيه، أن فرنسا ترى أنه من الممكن اعتبار العملية العسكرية لحلف شمال الأطلسي (ناتو) في ليبيا بحكم المنتهية.

ورغم كثرة التحليلات التي تذهب إلى احتمال" توطن" قوات الناتو على سواحل ليبيا، كمقدمة لتعزيز وجوده العسكري في منطقة الشرق الأوسط والدفاع عن مصالحه النفطية والأمنية، في إطار التحولات في استراتيجيته للخروج من أوروبا، كما في أفغانستان، فإن الأمر لا يبدو يسيرا، إذ إن ثمة مخاوف من أن وجود الناتو ذاته يكون ذريعة في مرحلة لاحقة لتحويل المتوسط إلى منطقة "عدم استقرار"، خاصة مع وجود تنظيمات جهادية ترفض الوجود العسكري للناتو، أو على الأقل تراه مؤقتا.

على أن دور الناتو المتوقع في مستقبل ليبيا سيكون بارزا من خلال "الأمن الناعم"، لاسيما على صعيد تشكيل المؤسسات الأمنية، ومساعدة ليبيا في عملية التحول الديمقراطي، فضلا عن مواجهة أي خطر لسيطرة متشددين علي الحكم في ليبيا، مثلما حذر راسموسن من قبل، خلال لقاء له مع مصطفى عبد الجليل.

2- فرنسا، وهي أكثر الرابحين الغربيين، لاسيما أنها أول من اعترف بالمجلس الانتقالي، وراهن الرئيس نيكولا ساركوزي بقوة على الحملة العسكرية لإسقاط القذافي. ورغم أن فرنسا نفت أن دعم المعركة العسكرية جاء من أجل اقتسام كعكة النفط، وإعادة الإعمار التي تقدر بنحو مائة مليار دولار، خلال السنوات الخمس المقبلة، فإن وزير الخارجية، آلان جوبيه، رأى أنه من المنطقي أن تتمتع الدول التي دعمت الثوار بأكبر الفرص.

وفي هذا السياق، تأتي الرسالة التي نشرتها صحيفة ليبراسيون الفرنسية، وتضمنت وعدا من ثوار ليبيا، خلال قمة لندن، بإعطاء فرنسا 35% من النفط الخام في البلاد، مقابل الدعم العسكري.

وبخلاف أن مقتل القذافي يمثل دعما معنويا لساركوزي في الانتخابات المقبلة، فإن باريس حريصة علي أن تمر العملية السياسية في ليبيا لمصلحة القوى الليبرالية التي تدعم مصالحها، خاصة لتعويض التراجع الذي أصاب دورها في منطقة المغرب العربي.

3- الولايات المتحدة: يمثل سقوط القذافي انتصارا من وجهة نظر البعض لنهج "اللاعب الخلفي" لإدارة الرئيس باراك أوباما بأن يضطلع حلفاء الولايات المتحدة بدور أكثر بروزا في أية حروب خارجية، هذا من جانب. ومن جانب آخر، تعلم الدروس من حربي أفغانستان والعراق، عبر تأمين المصالح الأمنية والنفطية بأقل تكلفة داخلية.

غير أن هذا الانتصار قد لا يكون انتصارا، حال لم يتمكن الثوار من الانتقال إلى حالة الدولة المستقرة القائمة على التمثيل الصحيح والمساءلة. ولعل ذلك يجد ما يؤيده في مسألة الإفراج عن الأصول الليبية المجمدة في الولايات المتحدة، حيث طالبت هيلاري كلينتون بآليات شفافية ومحاسبة.

ورغم امتعاض الجمهور الأمريكي، المنشغل بهمومه الاقتصادية، من المشاركة الأمريكية المحدودة في الحرب الليبية، فإنه يتوقع أن تسعي إدارة أوباما إلى إنجاح المرحلة الانتقالية، لاسيما أنها تمثل النموذج الناجح للتدخل الدولي بعد أخطاء العراق وأفغانستان.

وفي هذا السياق، تعهد الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بدعم المجلس الوطني الانتقالي في كلمته التي ألقاها في نيويورك، خلال اجتماع أصدقاء ليبيا المخصص لدعم المرحلة الانتقالية في ليبيا ما بعد القذافي. ودعا أوباما - عقب لقائه رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل للمرة الأولي - إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة، داعما في الوقت نفسه تمديد مهمة حلف الناتو في ليبيا.

 رابعا- تحديات واحتمالات المستقبل:

ثمة تحديات رئيسية، إذا تم تجاوزها، يمكن توقع سلاسة سياسية في المرحلة الانتقالية، والاتفاق على من سيحكم ليبيا. ومن أهم تلك التحديات:

1- فلول نظام القذافي، إذ ستظل ليبيا في حالة عدم استقرار، ما لم تتم إدارة نهج للتعامل مع فلول نظام القذافي، خاصة اللجان الثورية، والكتائب الأمنية رغم هزيمتها.

وفي هذا السياق، ثمة خلافات واضحة في المشهد الليبي ما بين فريق يتزعمه مصطفى عبد الجليل، الذي يري أن إدماج هؤلاء في ليبيا الجديدة هو السبيل لبناء الدولة، وفريق آخر، كبعض الإسلاميين وقوى داخل معارضة المهجر، الذي يرى أنه لا مكان لهؤلاء في النظام الليبي الجديد.

غير أن رؤية الإدماج والمصالحة التي بدت واضحة، عندما طالب عبد الجليل بالتعامل الحضاري مع بقايا نظام القذافي، خوفا من تكرار تجربة اجتثاث البعث العراقي التي خلفت عدم استقرار، تصطدم بانتشار السلاح، وتوطن قيم الثأر بين القبائل الليبية. وفي هذا الإطار، تشير إحدى وثائق المجلس الوطني الانتقالي الليبي، التي كشف عنها في أغسطس 2011، إلى أنه قد تم تجنيد نحو 800 من مسئولي الجهاز الأمني الليبي ليكونوا نواة القاعدة الأمنية لحكومة ليبيا الجديدة.

2- نزع السلاح من الثوار، إذ إن ثمة انتشارا للسلاح في مختلف أرجاء ليبيا، سواء لدى الثوار أو غيرهم. وفي هذا السياق، تبدو أهمية إعادة تشكيل المؤسسة الأمنية بشقيها الداخلي والخارجي لفرض القانون وجمع هذه الأسلحة، لاسيما في ضوء انتشار الخلافات القبلية التي أطلت أخيرا برأسها باشتباكات مسلحة بين الثوار في الزنتان والقرويين في الريانية.

3- النفط الليبي، إذ إن القذافي استخدم عوائد النفط بشكل غير متوازن طيلة فترة حكمه، حيث تركزت التنمية في بقعته المفضلة سرت (الوسط)، وساد الفقر ونقص الخدمات الأساسية في الشرق والجنوب. وهو ما يطرح علي المجلس الوطني الانتقالي تحديات فيما يتعلق بكيفية توزيع عوائد النفط، بما يرضي جميع الجهات الجغرافية والقبلية، وفي الوقت ذاته صياغة آليات للمحاسبة والشفافية في التعامل مع الشركات النفطية الغربية.

4- الاتفاق بين القوى السياسية على شكل الدولة، إذ إن ثمة خلافا في رؤية الدولة الليبية ما بين التيارات الأيديولوجية، سواء كانت ليبرالية أو إسلامية أو ملكية. ولعل القدرة على إيجاد حد أدني من التوافق علي شكل النظام والدولة ستسمح بسلاسة الفترة الانتقالية، خاصة أنه إلى الآن لا توجد رؤية واضحة. فهل ستتم إقامة دولة مركزية في مساحة مترامية الأطراف، أم دولة فيدرالية تتيح لا مركزية مع الأقاليم الليبية الثلاثة التي تتباين تنمويا وقبليا، أم دولة تجمع بين المركزية واللامركزية، مؤسسة على وظائف قانونية وتنموية تجنبا لأي تشتت مناطقي؟

إن درجة نجاح المجلس الوطني في التعامل مع هذه التحديات ستخلق بدورها احتمالات للمرحلة الانتقالية ولشكل الحكم في ليبيا. ومن أبرزها:

1- تعلق ليبيا في المرحلة الانتقالية، إذ إن الفشل في التعامل مع التحديات السالفة، وتصعيد الخلافات بين القوى السياسية، وعدم القدرة على احتواء الاستقطاب القبائلي، سيساعد على تجميد الفترة الانتقالية، وأن يظل الحكم في يد المجلس الانتقالي.

2- انهيار المرحلة الانتقالية، واشتعال الصراع المناطقي بين الشرق والغرب، وهو احتمال قد يكون مستبعدا، لاسيما في ظل رغبة القوى الكبرى على تخطي المرحلة الانتقالية، تأمينا للمصالح النفطية والأمنية والاقتصادية في المتوسط والساحل والصحراء.

3- الانتقال لدولة ديمقراطية، وهو احتمال يحتاج إلى فترة طويلة لتحققه، لاسيما مع نقص الخبرة الليبية في بناء الدولة، فضلا عن جسامة التحديات السياسية والأمنية في ليبيا، وصعوبة تكريس سلطة القانون، خاصة بعد مشهد قتل القذافي، وتعقد عملية جمع السلاح، وإقامة مؤسسات أمنية في وقت وقصير.

إن ليبيا بعد مقتل القذافي تحتاج إلى بناء اتفاق وطني عام على من يحكمها، وتحييد العامل الخارجي في صياغة مستقبلها، بما يجتذب ولاءات المواطنين من مختلف المناطق والقبائل، ويكرس لدولة القانون.

د. خالد حنفي علي
باحث مصري في العلوم السياسية.