الصفحة الرئيسية > ثقافة > مئذنة شنقيط معمار فريد عمره 8 قرون فى موريتانيا

مئذنة شنقيط معمار فريد عمره 8 قرون فى موريتانيا

السبت 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013


تقع مدينة شنقيط التاريخية شمال موريتانيا وحينما يدخل الزائر الى المدينة تبهرة مبانيها القديمة ويقف أمام مسجدها الجامع، الذي يمثل نموذجا معماريا فريدا يجمع بين البساطة والتناسق الهندسي الدقيق، ويجد الزائر نفسه مأخوذا إزاء هذا النمط الفني والمعماري المميز من جهة، والنظام الصارم الذي يزاوج بين التكيف الحازم مع طبيعة صحراوية قاسية، وبين عادات وأنماط سلوكية متوارثة على مدى ما يقارب ثمانمائة سنة، ما يزال أهل شنقيط يتميزون بها عن معظم المدن والحواضر في هذا البلد الإسلامي العريق.

وأول ما يلفت انتباه القادم إلى المسجد هو مئذنته ذات الشكل المستطيل، المنتصبة وسط المدينة في انسجام وتناسق بديع مع بقية المباني، بما فيها تلك المشيدة حديثا حيث يبدو حرص السكان على استخدام الصخور الحمراءـ المنحوتة من الجبال المحيطة بمدينتهم ـ في البناء حفاظا منهم على الطابع العام للمدينة التاريخية، وبالفعل فقد باتت مئذنة جامع شنقيط تشكل رمزا بارزا ومعلما رئيسيا لحضارة الشناقطة وتراثهم العربي الإسلامي، ويشير تمايز ألوان الحجارة التي شيدت بها المئذنة إلى التفاوت في تاريخ بنائها، و يدرك المتأمل بوضوح أن حجارة الجزء السفلي من المئذنة ـ والذي شيد مع المسجد سنة 660 للهجرة ـتبدو قاتمة أكثر من حجارة الجزء العلوي الذي شيد قبل 400سنة فقط . مما يؤكد أن المئذنة بنيت على مرحلتين زمنيتين متفاوتتين كما يقول مؤرخو شنقيط.

يوجد داخل المئذنة سُلّم مُلتفّ يؤدي إلى أعلاها، كما تحتوي جدران المئذنة على فتحات للتهوية والإضاءة أعطت لمسات تزيد من جمالية شكلها الخارجي. أما حينما يستوي الزائر فوق سطحها، فلن يعدم ما يبهره بدءا بمنظر المدينة من أعلى،مرورا بالتفكير في سبب وضع بيض النعام فوق المئذنة، وانتهاء بالدهشة إزاء تحول سطح المئذنة إلى سجل للزوار، يدوّنون فيه أسماءهم و “يستودعونه” شهادتهم أن “لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله” و “صلاتهم على النبي محمد” عليه أفضل الصلاة والسلام .

أما واجهة المسجد فتعكس بوضوح نموذجا آخر من الزخرفة الإسلامية تطبعه البساطة ويعتمد على استخدام الأقواس التي تضفي لمسات فنية وجمالية على أبواب المسجد.

وقد أضفى طلاء الجدار الخارجي للمسجد وواجهة المئذنة بطلاء عصري تناسقا وانسجاما رغم الاختلاف الواضح بينهما.

يحيط بالمسجد سور صخري له بابان من جهة الجنوب والغرب وبين البابين يوجد مكان مخصص للوضوء وقد عزل بجدار لا يتجاوز ارتفاعه المتر, وغير بعيد من هذا المكان توجد صخرة تحديد دخول وقت صلاتي الظهر والعصر عن طريق الظل، وهو تقليد متوارث عند أهل شنقيط منذ تأسيس الجامع, وللمسجد خمسة أبواب يدخل المصلي من أيها شاء، لكن هناك باباً سادسا يتوارى خلف المئذنة في أقصى اليمين, و يؤدي عبر ممر ضيق، إلى المصلى الخاص بالنساء في الركن الجنوبي الغربي من المسجد.

بالطبع فقد واجه هذا المسجد عبر تاريخه الطويل وكغيره من مباني المدينة التاريخية قساوة الطبيعة الصحراوية المتمثلة في أمواج الرمال الزاحفة التي ما تزال تهدد معه كامل المدينة, وقد ضرب أهل شنقيط المثل في التصميم على البقاء ومغالبة الطبيعة القاسية التي أجبرتهم على أن يرمموا مسجدهم هذا في العام 1378 للهجرة أي قبل 66عاما من الآن. ورغم ذلك ما يزال مسجد شنقيط يحتفظ بنفس الأبعاد والتصميم، و نفس الأساسات التي أسس عليها من أول يوم. وقد اقتصر الترميم على رفع مستوى الجدران، ورفع مستوى السقف إلى أعلى. وما يزال مستوى السقف الأول واضحا من داخل المسجد.

يتملك الداخل إلى المسجد إحساس غريب يوحي له بأنه يعيش أجواء روحانية مشبعة بعبق عصور الإسلام الأولى، حيث يرفض الشيوخ القائمون على المسجد تبليط أرضيته، ويحرصون على بقائها ترابية تلتصق حصاها بجبين المصلي، ويكاد يشم منها رائحة التاريخ زكية عبقة.

يلفت انتباه الداخل إلى المسجد، الحيز الذي تشغله سارياته لكثرة عددها وضخامة حجمها ربما لكونها تحمل سقفه، لكن السارية بالإضافة لوظيفتها الأساسية تلك تحتوي على تجويفات ونوافذ تستخدم كمخازن لحفظ بعض الأغراض كالمصاحف والمصابيح والكتب..

لا توجد في جدران مسجد شنقيط نوافذ للتهوية أو الإضاءة، لكن بدلا من ذلك توجد نوافذ صغيرة مفتوحة في السقف تمد المسجد بالضوء والهواء خصوصا وقت الزوال، ولا تتعدى فتحة النافذة الواحدة 15 سم مربعا، ويتم إغلاق هذه النوافذ بقطع صخرية مصفحة تمنع تسرب الماء حين تنزل الأمطار.

أما سقف المسجد فهو كبقية المبنى، مصنوع من المواد التي تنتجها طبيعة مدينة شنقيط وبيئتها المحلية, فالأعمدة الأفقية الحاملة للسقف هي من جذوع النخيل, و سعف النخيل هو الذي يشكل الوجه الداخلي للسقف, في حين يغطي الطين السطح الخارجي للمسجد.

تتميز جماعة مسجد شنقيط بكثير من الانسجام والانضباط، و خلال شهر رمضان خاصة، تحرص جماعة المسجد على ختم صحيح البخاري، الذي تنتظم حلقات درسه كل يوم مابين صلاة الظهر وصلاة العصر.

أما بعد العصر فيجلسون بالمسجد في حلقة أذكار وابتهالات تستمر حتى يقترب موعد الإفطار، وهناك يمكن أن نلاحظ بوضوح ظاهرة أخرى يتميز بها سكان شنقيط وتتمثل في حرص جميع الأسر على المساهمة اليومية في الإفطار الجماعي للصائمين الموجودين بالمسجد وقت الغروب، ويصل الأمر إلى وجود طوابير في بعض الأحيان ينتظر فيها الأشخاص أدوارهم لوضع الأواني بالمكان المخصص لها داخل المسجد.

وفيما يتعلق بصلاة التراويح فإن أهل شنقيط يصلونها ثلاثا وعشرين ركعة اعتمادا على أحد أرجح الأقوال في مذهب الإمام مالك بن أنس.

ورغم مضي أكثر من سبعمائة وسبعين سنة، ما تزال الأجيال المتعاقبة في شنقيط تتوارث هذا الصرح الديني والتاريخي خلفا عن سلف، وتحرص على بقائه معلمة دينية، وتراثا عربيا وإنسانيا خالدا، ولا تقبل جماعة الشيوخ القائمين على المسجد إدخال تحديثات أو تقنيات أكثر من استخدام الكهرباء لتسميع الأذان والصلاة والإضاءة ليلا، أو تشغيل مروحات الهواء لتخفيف درجة الحرارة التي تفرضها طبيعة المنطقة. ولم تغرهم العروض السخية من فاعلي الخير لتطوير المبنى وتغييره, بما في ذلك تبليط أرضية المسجد أو حتى فرشها بالسجاد، بل مازالوا يفضلون الاقتداء بأسلافهم في افتراش الأرض والسجود عليها تواضعاً لله عز وجلّ.

وعُـرفت موريتانيا قبل فترة الاستعمار الفرنسي باسم “شنقيط”، نظرا لمكانة هذه المدينة، الدينية والثقافية فقد كانت محطة تجمع الحجاج المنطلقين من منطقة الصحراء باتجاه الديار المقدسة كما اشتهرت بكونها إحدى المحطات الرئيسية لطرق القوافل التجارية، ويتحدث المؤرخون أن قافلة مكونة من ثلاثين ألف جمل محمّلة بالملح، انطلقت ذات يوم من شنقيط باتجاه تمبكتو، ويشتهر بين سكان المنطقة أن شنقيط في أوج ازدهارها كانت تضم ثلاثين مسجدا لا يسمع أي منها أذان الذي يليه لاتساع مساحتها، كما كانت المشاجرة والخصومة الكبيرة تندلع في ناحية من سوقها دون أن تحس جوانب السوق الأخرى بذلك، أما مكتبات شنقيط الزاخرة بالمخطوطات النفيسة والنادرة فما تزال أبرز ملامح المدينة حتى اليوم.

ودرج مؤرخو المدينة على القول، إن “شنقيط” الأولى المشهورة باسم “آبّيْــرْ”، أسست قريبا من موقعها الحالي سنة 160هـ، وقد بلغت أوج ازدهارها إثر سقوط دولة المرابطين الشمالية سنة 541هـ، أما شنقيط الثانية (الحالية) فإن العديد من الروايات الشفوية يُرجع تأسيسها إلى سنة 660 هجرية (1262م) على يد أربعة رجال ترجع إليهم أنساب أربع من أشهر قبائل موريتانيا، في روايات تتفق في جوهرها وتختلف في تفاصيلها.ويقول الباحث والمؤرخ الموريتاني الحسين ولد محنض “.. ثم لم تزل عمارة آبّيْرْ تضمحل وعمارة شنقيط تتسع واسمها يشتهر، حتى صارت “شنقيط” علما على سائر البلاد”.

في السياق ذاته يشير الباحث الموريتاني الدكتور سيد أحمد ولد الدي إلى انتشار إشعاع مدينة شنقيط في مختلف نواحي البلاد بقوله: “وزاد من إشعاع شنقيط هجرة أبنائها في النصف الثاني من القرن الحادي عشر إلى جنوب البلاد ووسطها وشرقها فانتشرت المدارس في الحوض ولعصابة وفي أرض القبلة وتكانت، فكان ذلك أساس النهضة العلمية في مختلف الجهات”.

(عرب يوم)