الصفحة الرئيسية > ثقافة > الرباط... لؤلؤة الأطلسي

الرباط... لؤلؤة الأطلسي

السبت 13 تشرين الأول (أكتوبر) 2012


بمناسبة إدراج مدينة الرباط ضمن لائحة التراث العالمي من طرف منظمة اليونسكو، أكتب شهادتي لتصدر في كتاب يضم ذكريات المبدعين الذين مروّا بهذه المدينة الجميلة.

لا أنسى أن رؤيتي المباشرة الأولى للأطلسي، كانت على ضفاف الرباط. شاهدتُ المحيطَ الهائل من الطائرة كثيرًا، لكن الوقوف على شاطئه المهيب، وتأمل موجه الهادر وزبده المُحمّل بالأسرار والرسائل، ومناجاته، لكي يحمل أسراري ضمن خبيئاته، لم يتيسر لي إلا هنا. المدينة المُحصّنة بأسوارها ورباطها المنيع، ذاك الذي ضفّره المرابطون كما يجدلُ الصائغُ خيوطَ الذهب حول لؤلؤة ثمينة، لكي يحميها من البصّاصين والشطّار.

المدينة الطيبة، التي ألهمتني قصائدَ في ديواني "هيكل الزهر". وكيف لا وقد ألهمت قبلي عظماء مثل ونستون تشرشل الذي في غمرة شعوره بالقلق من ويلات الحرب العالمية الثانية، وقف في شرفته بفندق مراكش، ليرسم الشمسَ تميلُ في وهن على جبال أطلس.

كانت زيارتي عام 2004، وقتها قال لي أصدقائي الشعراء المغاربة، يغايظونني: "مَن لم يزر مرّاكش، لم يزر المغرب"! وأعدوا لي زيارة لتلك المدينة الساحرة.

وبالرغم من أنني وقتها كنت في "آسفي"، أي قاب قوسين من مرّاكش، وبرغم ولعي بابن رشد، ورغبتي أن أشهد البلدَ التي فتحت ذراعيها للعالِم الكبير واحتضنته حين كفّره أعداءُ الفكر وأعداء الحياة، بعدما أثرى المدونة العربية والإسلامية في الأندلس، بما سيظل ينهل منه الغرب المستنير، وسنظل نتناساه، نحن العرب التعساء، بالرغم من كل ما سبق، إلا أن وعكةً صحيّة منعتني من تحقيق الحلم.

ذكرتني الرباط بقرطبة، محلّ مولد ابن رشد. وذكرتني قرطبة بالمغرب، محلّ منفاه. فبين عشرة أمتار وأخرى في قرطبة، تجد اسمAverroes أو ابن رشد، يزيّن مدرسةً، أو ميدانًا، أو شارعًا، أو جامعة. وفي مصر، بلادي، يختفي ابن رشد! ليس فقط من المعالم المكانية، بل من المناهج التعليمية، ومن قلوب الناس، وعقولهم!

على مكتبي الآن يقفُ تمثال من الخزف البنيّ المحروق، لكهل حكيم في يده عصا، وفي الأخرى مشكاة. جلبته من نحّات نحيل عجوز مثقف بالرباط. سألته: "لمن هذا التمثال يا عم؟" "هذا أفلاطون". "أظنّه ديوجين، لأنه يحمل مصباحًا، يبحث به عن الحقيقة، في وضح النهار." فقال بحسم: "كلا، هذا أفلاطون، فأنا صانعه. وضعتُ في يده مصباحًا، ليبحث هو الآخر. هل يقفُ البحثُ عن الحقيقة عند ديوجين؟" أذهلتني فلسفته، وفكرت وقتها أننا نحتاج إلى ستة مليارات مصباح، لمجمل سكّان الأرض.

أعاقتني اللغة عن التواصل مع أصدقائي المغاربة. لهجة المغاربة عسيرة على أذني المصرية، والعكس غير صحيح. يفهمونني إن تحدثتُ الدراجة المصرية، ولا أفهم حرفًا إن تحدّثوا الدارجة المغربية! حزنتُ لأنني فقدتُ التواصل مع رفقتي، وقلت لهم: "عن أي قومية عربية تكلم عبد الناصر، وأنا لا أفهم ما تقولون؟! عاتبتُ عبد الناصر، وعاتبتُ أمي أيضًا، لأنها أدخلتني مدرسة بريطانية في حين كان يجب أن أتعلم الفرنسية كيلا أضيع في المغرب! وكان أصدقائي المغاربة طيبين. تبرّع أحد الشعراء أن يترجم لي كل ما يقول الرفاق إلى العربية الفصحى.

وكان ذلك مادة للتندر خلقت مفارقات جميلة مبهجة، هي زادي الآن، كلما ضربني الحنينُ لمعاودة زيارة المغرب.

أما أطرفُ ما مرّ بي في الرباط، فكان في أول يوم لي بها. في مدخل الفندق، حدثني موظف الاستقبال فلم أفهم. كان يتكلم خليطًا من الفرنسية والمغربية والأمازيغية. اقترحتُ عليه الإنجليزية فاقترح عليّ الفرنسية! سألني سؤالا واحدًا، وكرّره عشر مرات. ولم أفهم إلا مطلع السؤال: " Vous êtes ……?". وحين يئست من فهم بقية السؤال، طلبتُ إليه أن يكتبه على ورقة، علّنى أفهم بالقراءة ما استغلق عليّ بالسمع.

وهالني أن الذي لم أفهمه، لم يكن سوى: "اسمي"! كان السؤال ببساطة: " Vous êtes Fatima Naoot?". إنها اللكنة التي أعاقت تواصلنا. اكتشفت لحظتها أنني في مأزق حقيقي، فاتصلتُ بأصدقائي المغاربة، الذين لم يبخلوا عني بأوقاتهم، فجاؤوا إلي من شتى المدن المغربية البعيدة، لكي يكونوا في صحبة صديقتهم المصرية، كيلا تضيع في تلك المدينة الجميلة. الرباط.

العرب أونلاين- فاطمة ناعوت