الصفحة الرئيسية > ثقافة > رمضان في عيون الرحالة والمؤرخين

رمضان في عيون الرحالة والمؤرخين

الاثنين 23 تموز (يوليو) 2012


اهتم المؤرخون بتسجيل مظاهر الإحتفال بشهر رمضان المعظم ، وبوصف عادات وتقاليد الناس في نهاره وليله ، ووجد مثل هذا الإهتمام لدى عدد كبير من الرحالة الأجانب ، الذين سافروا لمعايشة "سحر الشرق" والكتابة عن ورسمه ، حتى كان أحدهم ليستأجر المسكن في أحد الشوارع الرئيسية ليطلع عن قرب على احتفالات الشهر البهيجة .

وبالإطلاع على بعض كتابات هؤلاء وهؤلاء عن رمضان في مصر الإسلامية ، ترسم في الذهن صورة لشهر رمضان قديما بعطرها ونسائمها الجليلة ، تنقذنا ولو إلى حين من لفح الحياة العصرية وويلاتها على قلب الإنسان .

يوم الركبة

ففي وصفه للإحتفال برؤية هلال رمضان في مصر عام 727هـ قال الرحالة الأشهر ابن بطوطة : " وعاداتهم في يوم الركبة أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر بدار القاضي ، ويقف على باب الدار نقيب المتعممين ، وهو ذو شارة وهيئة حسنة ، فإذا أتى أحد الفقهاء أو الأعيان تلقاه ذلك النقيب ومشى بين يديه قائلا : بسم الله سيدنا فلان الدين ، ويجلسه النقيب في موضع يليق به ، فإذا تكاملوا هنالك ، ركبوا جميعا وعلى رأسهم القاضي وتبعهم من بالمدينة من الرجال والصبيان ، حتى إذا ما انتهوا إلى موضع مرتفع خارج المدينة - وهو مرتقب الهلال عندهم - وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش ، فينزل القاضي ومن معه يرتقبون الهلال ، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس فيكون ذلك دليلا على ثبوت رؤية الهلال فيوقد التجار الشموع بحوانيتهم وتكثر الأنوار في الطرقات والدروب والمساجد " .

ومن جانبه يصف "ابن إياس" احتفال أهل مصر برؤية الهلال عام 920هـ فيقول : " ... وأما في ليلة رؤية الهلال ، حضر القضاة الأربعة بالمدرسة المنصورية ، وحضر الزيني بركات بن موسى المحتسب ، فلما ثبتت رؤية الهلال وانفض المجلس ، ركب المحتسب ومشت قدامه السقاءون بالقرب ، ووقدوا له لشموع على الدكاكين وعلقوا له التنانير والأحمال الموقودة بالقناديل من الأمشاطيين إلى سوق مرجوش ، إلى الخشابين ، إلى سويقة اللبن إلى عند بيته (بيت الزيني بركات) .

ويقول الرحالة "ناصر خسرو" ، الذي زار مصر في القرن الخامس الهجري عن استعدادات رمضان بجامع عمرو بن العاص "إنه كان يوقد في ليالي المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل ، وإن المسجد يفرش بعشر طبقان من الحصير الملون بعضها فوق بعض ، وكانت تعطر المساجد بالبخور والكافور والمسك " .

كرم أهل مصر

وعن كرم وجود أهل مصر في رمضان يقول عبد الرحمن الجبرتي في عجائب الأسفار إنه توجد لهم سنن وطرائق في مكارم الأخلاق لا توجد لغيرهم " ففي بيوت الأعيان كان السماط يمد مبذولا للناس ولا يمنعون من يريد الدخول ، وكانت لهم عادات وصدقات في المواسم الدينية خاصة في ليالي رمضان ، يطبخون فيها الأرز باللبن ، والذرة ويملأون من ذلك قصاعا كثيرة ، ويفرقون منها على من يعرفونه من المحتاجين ، ويجتمع في كل بيت الكثير من الفقراء ، فيفرقون عليهم الخبز ويأكلون حتى يشبعوا ويعطونهم بعد ذلك دراهم ، ولهم غير ذلك صدقات وصلات لمن يلوذ بهم ، خلاف ما يعمل ويفرق من الكعك المحشو بالسكر والعجمية وسائر الجلوى" .

هذا كما تشهد الأسواق والحركة التجارية نشاط غير عادي خلال الأيام الرمضانية ، وفي ذلك يقول المقريزي عن سوق الشماعين بالنحاسين في مصر خلال القرنين الثامن والتاسع الهجريين : " كان به في شهرمضان موسم عظيم ، لكثرة ما يشترى ويكترى من الشموع الموكبية ، التي تزن الواحدة منها عشرة أرطال فما دونها ، ومن المزهرات عجيبة الزي مليحة الصناعة ، ومنها ما يحمل على العجل وزن الواحدة منها قنطارا وما فوقه .. فيمر في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه " .

ليلة الرؤية

شغف كثير من الرحالة الأجانب بحياة المسلمين بما فيها من عادات وتقاليد تغلفها الإنسانية الكاملة وكتبوا الكثير في وصف أيام وليالي رمضان ، وعادات المسلمين فيه ، حتى أن بعضهم كما يقول الكاتب والباحث المصري عرفه عبده علي (مجلة العربي ديسمبر 2000) أخذه الشغف حتى أنه شارك المسلمين عاداتهم وصلاتهم بالمساجد كالمستشرق البريطاني الشهير "إدوارد لين" ، الذي اختلط بمسلمي مصر ، وسمى نفسه "منصور افندي" ، ومما كتبه في وصف ليلة رؤية هلال رمضان في مصر عام 1835م :" والليلة التي يتوقع أن يبدأ صبيحتها الصيام ، تسمى ليلة الرؤية .. فيرسل عدد من الأشخاص الثقاة إلى مسافة عدة أميال في الصحراء حيث يصفو الجو ، لكي يروا هلال رمضان .. بينما يبدأ من القلعة موكب الرؤية الذي يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف : الطحانين والخبازين والجزارين والزياتين والفكهانية ، تحيط بهم فرق الإنشاد ودراويش الصوفية ، وتتقدم الموكب فرقة من الجنود .. ويمضي الموكب حتى ساحة بيت القاضي ، ويمكثون في انتظار من ذهبوا لرؤية الهلال .. وعندما يصل نبأ ثبوت رؤية هلال رمضان ، يتبادل الجميع التهاني ثم يمضي المحتسب وجماعته إلى القلعة بينما يتفرق الجنود إلى مجموعات يحيط بهم " المشاعلية" والدراويش ، يطوفون بأحياء المدينة وهم يصيحون : يا أمة خير الأنام .. صيام .. صيام ، اما إذا لم تثبت الرؤية في تلك الليلة ، فيكون النداء " غدا متمم لشهر شعبان .. فطار .. فطار " .

مائدة الإفطار

وحول إفطار رمضان يقول "لين" : " توضع مائدة الإفطار - طوال شهر رمضان - في غرفة الإستقبال ، حيث يستقبل رب الدار ضيوفه ، وتعد صينية فضية كبيرة تزدان بأطباق المكسرات والزبيب والحلوى وأواني الشربات والماء ، وفي الحسبان دائما الضيوف الذين قد يهبطون بغته ، وتجهز أدوات "الشوبك" للتدخين .. بعد أذان المغرب ، يتناول رب الدار مع أسرته وضيوفه أكوابا من شراب الورد أو البرتقال ثم يؤدون صلاة المغرب وبعدها يتناولون شيئا من المكسرات ويدخنون .. وبعد تناول شراب منعش يجلسون لتناول إفطارهم ، غالبا من اللحوم وأطايب الطعام ، ثم يؤدون العشاء ويعقبها صلاة التراويح ، التي تؤدى جماعة في المسجد ، ثم يتدفق الناس إلى الشوارع ، ويتحول الليل إلى نهار ويرتاد العامة المقاهي ليستمعوا إلى المنشدين ورواة السير الشعبية ، ويعقد دراويش الصوفية حلقات الذكر وختمة القرآن في منازل شيوخهم كل ليلة ، ويدور المسحراتي في كل ليلة ، ولكل منطقة مسحراتي خاص بها يطلق المدائح لأرباب المنازل ممسكا بيده اليسرى "بازا" صغيرا وبيده اليمنى عصا أو قطعة من لجلد يضرب بها ، عند كل وقفة ثلاث مرات ، يرافقه صبي يحمل فانوسين ، موحدا الله (سبحانه وتعالى) ومصليا على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصائحا : اصح يا غفلان .. وحد الرحمن .. أسعد الله لياليك يا فلان ، داعيا بالتقبل والحفظ لأهل الدار ، ولا يذكر أسماء البنات ، وإنما يقول : أسعد الله لياليك يا ست العرايس " .

ويقول العالم والرحالة المستشرق الأيرلندي "ريتشارد بيرتون" عن أيام رمضان في مصر العام 1853م :

" تراعي مختلف الطبقات شعائر هذا الشهر بإخلاص شديد - رغم قسوتها (في نظره) فلم أجد مريضا واحدا اضطر ليأكل حتى لمجرد الحفاظ على حياته .. وحتى الآثمون الذين كانوا قبل رمضان قد اعتادوا السكر والعربدة - حتى في أوقات الصلاة - قد تركوا ما كانوا فيه من إثم فصاموا وصلوا .. والأثر الواضح لهذا الشهر على المؤمنين هو الوقار الذي يغلف طباعهم .. وعند اقتراب المغرب تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غشيتها ، فيطل الناس من النوافذ والمشربيات يرقبون لحظة خلاصهم ‍، بينما البعض منهمك في صلواته وتسبيحه ، وآخرون يتحلقون في جماعات أو يتبادلون الزيارات . أخيرا انطلق مدفع الإفطار من القلعة .. يا للسعادة .. ويجلجل صوت المؤذن جميلا داعيا الناس إلى الصلاة ، ثم ينطلق المدفع الثاني من قصر العباسية (سراي عباس الأول) وتعم الفرحة أرجاء القاهرة .. التي كانت صامته ، وينتقل إحساس الترقب المبهج إلى اللسان الجاف والمعدة الخاوية والشفاه الواهنة ، فتشرب " قلة " من الماء .. " .

ثم تقبل الأيدي على تناول الطعام ، كي تقوى على قيام ليالي الشهر الفضيل ، وإحياؤها بالعبادة وقراءة آيات الذكر الحكيم والدعاء بأن تنهض الأمة الإسلامية من محنتها ، وتستعيد مجدها وعزها .

المصدر : جريدة «المحيط» المصرية