الصفحة الرئيسية > رأي > موريتانيا والمسارات القلِقَة

موريتانيا والمسارات القلِقَة

الخميس 26 نيسان (أبريل) 2012


بقلم د.حماهُ الله ولد السالم

مرّة أخرى يزداد الاحتقان السياسي في موريتانيا حديثة العهد باستحقاق انتخابي نتج عن صراع استقطابي حادّ خرج من عباءة انقلاب خاطف على رئيس شرعي.

ما يجري في موريتانيا ليس عاديًا ولا يمكن المرور عليه بسهولة مرّ الكرام، بل لا بد من إعطائه بعضًا من حقه في المراجعة والحكم والتبيّن.

وذلك لأسباب وجيهة، منها أن الساحة السياسية الموريتانية ضيقة العطن لأن الناشطين في حقل السياسة لم يتعودوا اللعب السياسي خارج مركز الاستقطاب الحاكم، الذي ينقسم حوله في العادة جمهور المتنافسين والمتصارعين.

يتأكد مرة أخرى أنّ هناك شيئًا يتصارع حوله المتنافسون، ليس كرسي الحكم فقط، بل فوائد وثمار الحكم المادية والعملية.
أكبر المسارات القلقة هو رفض جزء أساسي من المعارضة الدخول في الحوار المطروح مع النظام، والتبرير المُعْلن هو التجربة المرة في اتفاق داكار الذي استخدمه النظام لتمرير انقلابه والحصول على الشرعية الضرورية ثم انقلب عليه، هكذا ترى المعارضة.

ولذلك فقد عادت نغمة التشكيك في شرعية النظام الحاكم، ومطالبته بالرحيل من دون شروط، وفورًا! لأنه حسب مُعارضيه نظام عسكري انْقلابي بلبوس مدني ديمقراطي، ولأنه يحتكر الثروة والحقوق ويمنعها الناس بحجج واهية من قبيل محاربة الفساد والمفسدين.

وبالقطع فإنه تشكيك متأخر لأن شرْعية النظام اكتسبها من منافسة المُعارضين، ولأن الاستحقاقات الكبرى قريبة وبات الكل يحسب حسابها.
ما يكشف عن شروخ عميقة بين المعارضة والنظام، تدلّ على غياب الحد الأدنى من الثقة والتفاهم.

مسار قلق بارز آخر هو انحدار مستوى الخطاب السياسي لدى الطرفين، سبابًا وشتيمة ونبزًا بالألقاب، ما يشي بأزمة حقيقية في المشهد السياسي الموريتاني، وبحدّة شديدة غير معهودة في البناء البلاغي للعبارة السياسية الموريتانية التي كادت تتطور في مراحل سابقة كان الاستقطاب السياسي خلالها حادًا ومريرًا.

وقد بات الموريتانيون يتسامرون بطرْفة سياسية مؤدّاها أن الخطاب السياسي الوطني (تأنّثَ) وصار نوعًا من (الخِطابة) بالكسر، لأن الموريتانيات يجدْن في الغزل الصريح دغدغة حقيقية لمشاعرهن أكثر من غيره، لاسيما إنْ كان أمام الملأ.
ولذلك قد تكون حدّة الخطاب دليلاً على نوع من الغزل السياسي الصريح بين النظام وخصومه، قد يفضي إلى وئام وقد تكون نهايته طلاقًا بائنًا بل وخصومة عنيفة.

وهناك مسارات قلقلة جانبية لكنها ليست أقل حدّة، ومنها الشكوك العميقة بين المعارضة نفسها، وليس لأسباب إيديولوجية فقط، بل ولعوامل ذاتيّة وعمليّة من قبيل التنافر بين قياداتها بحكم المزاج وقلة الانسجام بين الحلفاء لحداثة عهدهم بالتحالف، وهي أدْواء حقيقية موجودة في صفوف الموالاة (الأغلبية) التي لا تخفي المرارة من ضعف صلتها برئيسها ونظرته "البرجْ ـ عاجية" لأنصاره وعدم عنايته بهم في المغانم والمناصب والحظوة.

ينضاف لذلك قلق عميق يشعر به الموالون للرئيس من عواقب ما يجري، وخشيتهم من أن تكون المعارضة الحالية قادرة على كسب رهان الانتخابات القادمة ولاسيّما البرلمان والبلديات، وتسري شائعات غير مؤكدة عن تفكير لدى رأس السلطة في البحث عن بديل صالح لخوض استحقاقات 2014 الرئاسية.

وهناك مسارات قلقة متعارضة، منها تدهور الأحوال المعيشية للسكان لا سيما في الداخل، بفعل نقص الأمطار والحرب الدائرة على الحدود الشرقية وتدهور مداخيل السياحة وأهمها السباق الأوروبي الشهير وكان يعبر الرمال الموريتانية ليدرّ على السكان دخْلاً معتبرًا.
لكن النظام يتخذ دوريًا سياساتٍ تسْكينيةً من قبيل تحمّل الفرْق في أسعار الأغذية، ودعم المهمّشين بمساعدات مباشرة.

وتبدو الجبهة الداخلية كما لو كانت منقسمة، حيث السكان المُهمَّشون منصرفون عن السياسة والتسيّس وقانعون بما يتلقون من دعم رسمي، شحيح، بينما تعيش الساحات التعليمية حربًا شبه يومية بين البوليس والطلبة تصل أحيانًا إلى حرب شوارع حقيقية بالحجارة والعصي.
هي حالة غليان شعبي جزئية تقابلها حالة تثبيت رسمي جزئية هي الأخرى، كما لو كان النظام والمعارضة قد تخندقا كل في محيطه الطبيعي "الممكن": هو "بين الفقراء" وهي داخل صفوف الطلبة "الشباب".

وستظل حالة الاستقطاب تلك تزداد ومعها تتسع دائرة الاحتجاجات والتظاهرات المؤيدة للنظام، وستكون الانتخابات القريبة هي الفيْصل في كل ذلك إن سارت الأمور على وتيرة الفعْل وردّ الفعل والكلام بالكلام.

لكن ما يخشاه المراقبون هو أن تكون الانتخابات بابًا على احتمالات قلقة هي الأخرى، ويكون آخر الدواء الكيّ.
أذكر أنّ ديبلوماسيًا سودانيًا مخضرمًا قال لي مرّة قبل انتخابات السودان الماضية: إن الديمقراطية لا تكفي، لأن الانتخابات لن تحلّ المشكلة في بلد مثل السودان ولم أفهم قصد الرجل إلا بعد فترة، ليس بحكم ضعف ملكة الفهم لدي فقط، بل لأنه لم يشأ أن يقول: والبلدان المشابهة. وعرفت البلد المقصود!

د.حماهُ الله ولد السالم
كاتب موريتاني

نُشر على موقع صحيفة الراية القطرية