الصفحة الرئيسية > رأي > الصحافة في موريتانيا: لا ملامح لهذا العرض الباهت (3-3)

الصحافة في موريتانيا: لا ملامح لهذا العرض الباهت (3-3)

الأربعاء 19 تموز (يوليو) 2017


بقلم : عالي الدمين

واضحٌ أنّ مشكلة الصحافة في موريتانيا ليست عرضيّة. وواضحٌ أيضًا، تبعًا لذلك، أن حلّها يجب ألا يكون هو الآخر عرضيًا. فلا مشكلتها تنحصرُ فقط في غياب البنية التحتية الأساسية، أو في غياب حقوق العمال، أو في فوضوية ولا معيارية العمل الصحافي، بالإضافة إلى التوظيفات/الهيمنات السياسية والقبلية والاقتصادية المُضرّة. هي على ما يبدو أكثر من كل ذلك بكثير، لدرجة أنها تتطلب تقديم مقاربةٍ أعمق وأشمل سنحاول تحقيقها من خلال التطرق لجانبٍ آخر من المشكلة قلّما حظي بتناولٍ تساؤلي ونقديّ جادّ ينتج قراءةً مغايرة. ألا وهو أساليب وطرق العرض السائدة، والتي تشمل إلى جانب الصورة الفوتوغرافية والأسلوب اللغوي كل ما تتضمّنه الخلفية المشهدية من تصاميم شعاراتية ولونية وخطية وديكوريّة.

في غياب الصورة

يكاد غياب الصورة الفوتوغرافية في الساحة الصحافية الموريتانية أن يكون سمةً عامة، على الرغم من أهمية الصورة كمكون أساسي في أيّ عنصرٍ صحافي. ومع أنّ الأدوات التكنولوجية والطباعية والتصويرية قد أصبحت اليوم، بفعل التطور التقني، أفضل من السابق، إلّا أن ذلك لم يساعد بتاتًا في أي تغيّر فعلي. فالكسلُ، حين يتعلّق الأمر بإنتاج الصورة والتعامل البصريّ معها، ما زال سائدًا في الوسط الصحافيّ. فعلى سبيل المثال فإن وجود مصوّرين صحافييّن في الجرائد والمواقع هو محلّ ندرةٍ كبيرة جدًا، طالما كانت باعثًا على الغرابة في أوساط كثيرين، خصوصًا من المراقبين الخارجييّن. وكثيرًا ما تطوّرت حالة الندرة تلك لتصل في بعض الأحيان إلى انعدام مؤسسيّ ووظيفيّ وأحيانًا ثقافيّ.

إن المصوّر الصحافي النشيط داخل مؤسساتِ إعلامية أو حتّى بشكلِ مستقلّ لم يأخذ بعد دوره الاعتيادي والطبيعي في الساحة الصحافية الموريتانية. وليس أدّل على ذلك الحال من غياب الصورة الحصرية المعمولة بطريقةٍ جيدة، والتي تأخذ قيمتها من ارتباطها بحدثٍ يمتاز ببعدٍ راهنيّ. فأغلبية الاستخدامات السائدة للصوّر هي استخداماتٌ غير مهنية، بمعنى أنها لا تراعي حقوق الملكية ولا الارتباط بالحدث المُتناول. ممّا يوضح أن الجديّة غائبة، لا سيّما مع انتشار وتكاثر استخدام صورةٍ واحدة في مناسبات ومنصاتِ عدة، حيث ستكون النتيجة لا محالة زرع الارتباك في بنية الحدث والواقع مع تشتيت أذهان القرّاء.

إن الصورة هي الإحالة الأكثر مباشرة للواقع، وفي ظلّ غيابها ليست هناك صحافة بالمعنى الحقيقيّ، خصوصًا إذا أخذنا في البال مركزيّة حضورها في العمل الصحافي المعاصر. فغياب الاستخدام الاحترافيّ والتقديم السياقي الدلالي الجيد للصورة في المادة الصحافية الموريتانية نتج عنه تشويه فظيع في زمكانية الأحداث، لدرجة جعل منها ظواهرَ متشابهة بلا ارتباط فعليّ بأرض الواقع وسياقه. وهذا ما ليس مطلوبًا أو مرغوبًا في ظلّ إلحاح مطالب المصداقية الدائم على إرفاق أدلة من عين الحدث.

بطبيعة الحال إنّ الغياب العموميّ لصورةٍ عن الواقع اليومي العادي في الصحافة الموريتانية، لا يعني مطلقًا أنّ عرض الصورة لم يأخذ في الغالب طابعًا تخصيصيًا ملحوظًا. فعلى هامش الواقع العادي والشعبي واليومي الغائبة صوره، فإن الواقع الرسمي والسلطويّ يحضرُ دومًا بصوره الملمعة والمبهرجة. والتي تحيلُ عند منصّات العرض إلى قيام مناسبةٍ رسمية تعتبر أهم من غيرها. وهذا على ما يبدو يوضّح غرضيّة سياسية هرمية في الحضور الحاصل للصورة الفوتوغرافية في الصحافة الموريتانية، ترتب عليه إقصاءٌ بيّن يعطي الأولية للمناسبات الرسمية، ولا يلتفتُ للجانب الشعبي العادي إلّا ليضفي عليه طابًعا فانتازيًا وغرائبيًا باهتًا. فالحال هنا هو أن الواقع لا يحضر تصويرًا إلّا في جانبه المركزي ليُبهرج ويُلمّع أكثر، بينما يغيب الهامش في أغلب أحواله ما لم يكن قابلًا للتحول إلى موضوعِ فرجويّ للاستهلاك.

إذًا فغياب الصورة الفوتوغرافية في الساحة الصحافية الموريتانية، بالرغم مما يعكسه من هرمية اهتمامية خفية، ليس غيابًا جماليًا أو مهنيًا تطبيقيًا يكشفُ عن نقصانٍ يشوب جانبًا من الممارسة الصحافية فقط، بل هو يتعدّى ذلك ليكون تأكيدًا على عدم التبلور الكلي والفعليّ للممارسة الصحافية المعاصرة برمّتها في موريتانيا.

الأسلوب سلبيًا؟

عبر الأسلوب اللغوي يتم تجسيد الممارسة الصحافية، فاللغة هنا لا تصبح فقط ناقلًا وسائطيًا في التعبير، وإنمّا تتحول لتصبح أفضل مكانِ لعرض العالم الإنساني بأغلبه. ولعلّ مما يبيّن قيمة الأسلوب اللغوي في الصحافة كون الوسائل الصحافية بكل الصيّغ تشترك ضرورةً في استخدامه بحسب مقام الحاجة إليه. هذا وقد جمع الأسلوب اللغوي قيمةً على قيمته الأصليّة حينما اشتُرط بمعايير الصحافة المهنية والأدواتية التي تجعلُ منه أسلوبًا، علاوةً على سلامته اللغوية، خاليًا من الأوصاف المشوّهة للحقيقة الموضوعية.

في الصحافة الموريتانية لا يبدو الأسلوب موحّدًا. فهو إذا أخذ أحيانًا، عند بعضهم، طابعًا أخلاقويًا وعظيًا، فإنه في بعض الأحيان يكون سطحيًا يعتمد المهجور من اللغة أو أكثرها استهلاكية وابتذالية. وفي أحيانٍ أخرى يأخذ طابعًا تحريضيًا وهجوميًا، في مقابل أخذه طابعًا احتفائيًا وتقديسيًا أحيانًا أخرى. مع حصر طبيعته في العرض التسطيحيّ للأمور دومًا، بدلًا من الغوص والتحليل وتقديم قراءات استشرافية ونقدية. كل ذلك طبعًا مع الاتفاق على استخدامه كوسيلة فقط، لا لعرض الحقيقة في الأساس، وإنمّا لتحقيق أهداف معينة.

بتحوّله ذاك إلى واسطةِ برغماتية دنيئة فقد الأسلوب اللغوي في الحالة الموريتانية طابعه الصحافي المتوقع، واستحال مجرد أداةِ جوفاء من كل قيمة تصبّ في اتجاه الحقيقة. فلا القيمة الصحافية تحقّقت، ولا القيمة الأدبية كذلك أيضًا. وبالرغم من عدم الفصل العضوي بين القيمتين عند بعض الناشطين في هذا المجال إلاّ أن ذلك لم ينتج نجاحًا معتبرًا في أي واحدةٍ منهما. ونتيجة لذلك ظهر تصوّر قاصر يعتبر الصحافة مقصورةً فقط على الأسلوب اللغوي، دون أي مكونات أخرى معيارية أو واقعية. لذا فتشوّهات الأسلوب اللغوي في الصحافة المحلية محصورة في ابتذاله واعوجاجه وفقدانه لمعايير كثيرة، لعلّ أهمها الاستخدام الصحيح لعلامات الترقيم إن لم يكن حذفها بالمطلق، ليست إلاّ تأكيدًا على خللٍ متعمّق في وعيها وممارستها معًا، لدرجةِ يكون معها أيضًا سالبًا وجودها معناه وحيويته.

تأطير المشهد بالبؤس

تعكس الخلفيات المشهدية في الإنتاج الصحافي الموريتاني، خصوصًا المرئي منه، فقرًا جماليًا كبيرًا، وتكثيفًا هائلًا للرداءة. فهي لا تستمدُ بناءها الذاتي من مرجعيّة موحدة، بل إنها تتوسل في قيامها مرجعيات معمارية وديكورية عدّة لا تنتج إلا الارتباك والإزعاج البصريّ الذي يصعب معه التركيز ذهنيًا.

لا يجد المشاهد ذاته في خلفيات كهذه، إلاّ في حالة فُرضت عليه في طابعٍ جديد، كتقديمها ضمن محتوى فولكلوي تراثي يتمتع بأصالةٍ تاريخية وثقافية كبيرة. ومع أنّ ذلك قالبًا ما تحقّق تحت رغباتٍ استهلاكية بحتة للصنّاع، إلاّ أنه لم يراعِ أي معايير صحافية أو جمالية أصيلة أو جديدة. في سعيٍ واضحٍ إلى جعل التركيب المبهرج، الذي تمثله، على صلةٍ متينة بالأعين المشاهدة. وكأن ذلك يكفي لتحقيق أصالةٍ إبداعية معتبرة. فما دامت العفوية مفقودةً بسبب التجهيز الدعائيّ الفجّ، فالأصالة الإبداعية لن تتحقق، خصوصًا أن الصلة بالواقع والموضوع المطروق في هذه الخلفيات قلما كانت متحققة. ذلك أنها وبسبب قلّة الأماكن، من مساحات عمومية واستديوهات متاحة، صارت تستنسخُ ذاتها من كثرة التشابه المتكرر.

وجود هذه الخلفيات السيئة التصميم، نظرًا لندرة المختصين الفنيين، يساهم في تطبيع ذهن المشاهد مع الرادءة، ويجعله سطحيًا وعلى تصالحٍ تام مع الإطار الاحتفالي الذي تكرسه هذه الخلفيات المهرجانية، وذلك بالرغم من قبح وتشوّه الواقع المحيط بها من كل الجهات. ذلك الإطار الاحتفالي القائم على التعقيد اللوني، الجامع بين تناقضاتٍ بصرية كثيرة، غالبًا ما شكّل ذريعةً لتقديم المضامين الباهتة كليًا. والتي غالبًا ما وجد المشاهد نفسه في تصادمٍ معها دون أي قدرةٍ على تفعيل ذهنه للنقد والتفكيك. ربما لأن طابعها ذاك، الباعث على الخدر في الأغلب، قد أفرغه من براءته المُسائلة للزيف والمنافية للقبح المسوّق.

عالي الدمين

المصدر : "العربي الجديد"