الصفحة الرئيسية > رأي > الصحافة في موريتانيا: العائد الاقتصادي والسياسي لكلام الورق (2-3)

الصحافة في موريتانيا: العائد الاقتصادي والسياسي لكلام الورق (2-3)

الثلاثاء 18 تموز (يوليو) 2017


بقلم : عالي الدمين

إذا كان تصوّر حقل الصحافة على نحوِ مستقلّ في موريتانيا يحدث تحت يافطات نقابية تسطيحية تريد توكيلًا انفراديًا في المسؤولية التمثيلية، ذات العائدات المادية الضخمة في التمويل والفرص والدعوات للأنشطة المتنوعة ورعايتها، فإنه علاوةً على ذلك يحدث سعيًا إلى تسييج حدود أي فهم لتلك الاستقلالية المعنية. فالمراد هنا هو فهم صفة الاستقلالية، والتي تسمح بها الأبجديات التعريفية التمهيدية بسخاء شديد، لا كانفصالٍ عن السلطات المتعددة الوجوه المحتمل ضغطها، وإنمّا كقطاعٍ اقتصاديّ ربحي كليًا، وخالٍ من أي نوعٍ من أنواع المسؤولية المهنية والأخلاقية.

وحتى إذا كان كل مجالِ مهنيّ اليوم أكثر من أيّ وقت مضى قابلًا لحمل سمةٍ اقتصادية تتعلّق بطبيعة تسييره، وخصوصًا في مجالِ شديد الصلة بالمجالات الأخرى كالإعلام، إلّا أن ذلك يبقى جاريًا ضمن حدود معينة يمكن معها السماح بالفصل أحيانًا، كنوعٍ من إعطاء كل شيءِ معناه الأصيل، مهما تشابكت فيه الخيارات والأساليب. لكن رعاة الفهم النفعي لمعنى "الاستقلالية" ذاك يريدونه أن يبقى مبدئيًا لدى جميع ممارسي الصحافة، أمًلا في أن تصبح، كممارسة عمومية حرة، مشوشة ومرتهنة للمصالح الضيقة.

إنما الأخبار للربح

تقريبًا فإن السمة الأكثر عمومية في الصحافة الموريتانية الحالية هي طبيعتها الإخبارية السريعة. لهذا فهي، في كل صيغها المكتوبة والمسموعة والمرئية، تكتظ بالأخبار من شتى الأنواع والأنماط، لدرجة تجعل ذهن المشاهد/ القارئ/ المستمع مقولبًا ومشوشًا، مع جاهزيةٍ كبرى للإجابة على أيّ أسئلة تتعلق بالتفاصيل أو النهايات أو الصيغ المعهودة التي طالما كُررت عليه في أكثر الأحوال.

إن الأمر هنا لا يتعلّق بالصيغ اللفظية المستهلكة جدًا أو بالتنميطات الجاهزة فقط، وإنمّا بأساليب الحذر والدعاية والتعريض المضمنة بشكلِ خفي جدًا. وهي أساليب غالبًا ما يسعى القائمون على صياغة هذه الأخبار إلى بثها في محتواهم الإعلامي من أجل أهداف شخصية محددة، وغالبًا ما وُجدت هذه المسائل في الأخبار، ذات الطبيعة الشخصية، والتي تعدُّ أكثر الأنماط الصحافية الإخبارية رواجًا في موريتانيا، بسبب العائدات المادية المفيدة الناتجة عنها من خلال أساليب التصفية أو الابتزاز.

هدفُ الربح، ماديًا أو رمزيًا، من وراء هذه الأخبار، يتطّلب تدخلًا تحريريًا أساسيًا، ينتهي في نهاية المطاف ليجعل منها صناعةً استهلاكية واضحة لا تبالي كثيرًا بثنائيات الواقعي الخيالي، الحقيقي والزائف، العمومي والخصوصي، وغيرها، ففي النهاية المطلوب هو الربح. وليس أضمن لتحقيقه من الانخراط في معارك الصراع السياسي أو الحزبي أو القبليّ أو العائلي أو الشخصي التي ليست ذات قيمة في أغلبها. بطبيعة الحال ليس القارئ/ المشاهد، المُتصوّر مُستهلكًا، هو من يحدّد قيمة تلك المعارك-الأخبار، فهي تعرضُ عليه عرضًا، حينما لا يتوفر بديل آخر لها.

يحيل صناع الأخبار الربحيون في الأساس لـ"مصادرهم شديدة الاطلاع" دومًا، من دون أن ينسوا تذكيرنا بما يروه جديرًا بحسب سقف أهيمته عندهم. وهم حين يفعلون ذلك إنمّا للقيام بدور مهني طالما تشدقوا بمعاييره وأخلاقياته دون تطبيق، إذ إن مبالاتهم تتركّز في المقام الأول على الربح من وراء الأخبار التي ينشرون، بدلًا من أن تتركّز على تنوير الرأي العام بحقيقةٍ ما أو حول قضية عمومية تهمه في ممارسة حياته.

هاتِ فضيحةً ساخنة

لا تكون الفضيحة ذات قيمة عند غالبية الصحافة الموريتانية إلّا إذا كانت ذات سمةٍ شخصية أساسًا، مع شرط أن تكون أيضًا ذات طبيعة جنسية شديدة. فليس ألذّ من كشف قضايا تتعلّق بـ"تابو" الجنس لدى الصحافيين المهمومين بالحفاظ على الحياء العام ومحاربة الرذيلة. أمّا كشف الأخبار المتعلقة بفساد وسلطوية المسؤولين فقلّة من هؤلاء الصحافة من يسعى لكشفها، بالرغم من ارتباطها الأكثر مصيرية بالشأن العام.

يبدو أنّ اللجوء للفضيحة ذات الطبيعة الجنسية، في الأخبار الصحافية الموريتانية، يرتبط أولًا بالسعي إلى تصفية حسابات معينة وتحقيق الربح من وراء ابتزازاتٍ مزعجة، كما أنه يبدو كاشفًا عن ارتباطٍ وثيق بالمفوضيات الأمنية التي غالبًا ما تكون أخبار العشق المحرّم والخيانة الزوجية والدعارة وقضايا الشرف ساخنة على مكاتبها. وهذا يوضح من جهة أن ذلك الارتباط بالمفوضيات، والذي ينتج عنه نشرُ أخبار فضائحية، يأتي أساسًا لهدفٍ بوليسي تضليليّ سياسيًا. ففي النهاية إن طيفًا لا بأس به من الصحافة الموريتانية، عندما لا يمكنه تحقيق ممارسة رقابية، كما يفترض أحد تعريفات الصحافة الأشهر، على المؤسسات والسياسات والمسؤولين العمومييّن، يقوم برقابةٍ أمنية منتهكة لخصوصية الناس العاديين.

إنّ الجرائد والمواقع الإلكترونية الكثيرة المتكاثرة هي أكثر منصاتٍ إعلامية تقوم بعرض تلك "الفضائح الساخنة" في موريتانيا، هذا وإن كانت بعض القنوات التلفزيونية تقوم في بعض الأحيان، لا تقديمًا صريحًا فحسب، وإنمّا صناعة أيضًا، بإظهار قضايا من ذلك القبيل لتصفية وتشويه خصومٍ معينين اجتماعيًا وقانونيًا.

الدّعاية في سبيل التصنيم

الدعاية بطبيعتها ربحيّة، وهي تغدو ربحية مرتين. وبالرغم أن ارتباطها بالصحافة، بصيغها المتعددة، طالما كان اعتياديًا، وإن كان يضرُّ بجودة المحتوى في بعض الأحيان، إلّا أنه قد وفّر شرعية لما يحصل في الساحة الصحافية الموريتانية من إنتاج لما يمكن تسميته اقتصادًا للتفاهة.

في الحالة الصحافية الموريتانية تنتج الدعاية أو تقدّم بطرق مختلفة، بحسب ما تعارف عليه سوقها المزدهر حاليًا. ففي بعض الأحيان يمكن للمنصة الصحافية أن تقدم دعايتها السياسية أو القبلية قبل التواصل مع المعنيين لأخد الأتعاب المالية، أما في بعض الأخيان الأخرى فالدعاية تأتي بعد الاتفاق. على أن هناك أيضًا دعاية مفتوحة دومًا تتمثل في قيام الجانب السياسي أو القبلي أو الاقتصادي برعاية المنصة لتبقى ناطقة باسمه في كل الأوقات. وهده الدعاية المفتوحة لا توضّح إلّا جزءًا يسيرًا من طبيعة المحتوى الزمني للإعلان الصحافي الموريتانيّ الموّجه لغايات سياسية واجتماعية واقتصادية محددة. وعلى عكس الطابع الآني والمؤقت لأغلب أشكال الدعاية الإعلامية المعهودة، إلّا أن أكثر أنماط الدعاية في الصحافة الموريتانية تأخد طابعًا ديموميًا وأبديًا لا يتوقف في أيّ نقطةِ من نقاط التحقيب الزمنيّ المحددة: ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، وذلك بالرغم من التحديث المستمر للمنصات الصحافية. طبعًا إن الطابع الديمومي ذلك للدعاية يقوم عن طريق الولاء بعبور الزمن المتعدد الحقب واختصاره كيْ يُصنّم هدفه السياسي والقبلي.

كلّ ذلك يجري ما بقي الدفع مستمرًا، فلكي تتواصل عملية المركزة الدعائية لا بد أيضًا أن تتواصل أيضًا بدورها عملية ضخّ الأموال والمنافع المادية. ينتج عن ذلك الحال ارتباكٌ في معاني المصداقية الحيادية النزيهة في الممارسة الصحافية بعد ذلك، كما ينتجُ عنه أيضًا، بنوعٍ من المفارقة الجدلية، تأسيس تصورٍ مفاده أن مقدم الدعاية، إعلاميًا، يبقى جزءًا ضمن مميزات ومواصفات المُعلن عنه سياسيًا واجتماعيًا. الأمر الذي يستلزم من الأخير، المستفيد سياسيًا من الترويج لنفسه، السعي إلى إغراق أصحاب المنصّات الصحافية في نعيم عطاياه أكثر أكثر ليمثلوا قيمته المُفترضة بعيدًا عن أيّ معانٍ شفافة للصحافة الحقيقيّة.

عالي الدمين

المصدر : "العربي الجديد"