الصفحة الرئيسية > الأخبار > الأولى > من يملك الأرض في موريتانيا؟.. دولة على هامش القبيلة

من يملك الأرض في موريتانيا؟.. دولة على هامش القبيلة

الأحد 28 أيار (مايو) 2017


على مرّ مراحل عدّة كانت الأرض في موريتانيا مملوكةً لجهاتٍ متعددة ومختلفة. فلم يحدث أبدًا في يومٍ من الأيّام أن امتلكتها جهة واحدة على نحوٍ عمومي وحصريّ يعترف به جميع السكان الموجودين في الحيّز الجغرافي العام التابع لها. فهي بمساحاتها الجغرافية الشاسعة جدًا، قد شهدت في تاريخها صراعاتٍ وتنافساتٍ شديدة، أعطتها بُعدًا أساسيًا ساهمَ، بشكلٍ ما، في تكوين حقيقتها الواقعية القائمة الآن. إذ إنه وبمقتضى ذلك الأمر كان التعامل مع ملكية الأرض مطبوعًا، في أغلب الأوقات، بتنافسٍ شرسٍ يأخذ مبرّره بالاستناد إلى تاريخٍ عريقٍ من الصراع.
على ذلك الأساس، لطالما أخذت الأرض في موريتانيا بعدًا ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا يشكّل الواقع القائم، ويعطي لحركته المستمرة معنىً تترتبُ عليه ممارسات متعدّدة تجدُ أهميتها في السياق الذي تحدثُ فيه. فبعد تاريخٍ طويلٍ من الصراع حول الملكية، في صيغها ومرجعياتها المتعدّدة، فإن الواقع الحالي لم يختلف كثيرًا، لأنه يعكسُ بوضوحٍ ما كان سائدًا من صراعٍ يرسخ التهميش ضدّ الضعفاء.

ملكية الأرض قديمًا
كانت ملكية الأرض، في السياق القديم قبل الدولة المركزية، تتمُ عبر عددٍ من الطرق، فإذا لم تكن ملكيةً عن طريق الهبة أو الإرث، فإنها تكون عن طريق الشراء والحيازة الطبيعية، وفي بعض الحالات تكون عن طريق الغلبة والغصب. وهي كلها صيغ امتلاكٍ مرتبطة بجماعةٍ مندرجة في دوامةٍ من الترحال المتواصل، طلبًا للانتجاع والرعي، إضافة إلى ذلك كانت تلك الجماعة على وعيٍ بمنافسة جماعات أخرى مماثلة. لذا فمن يملكُ الأرض في السياق القديم هو السيّدُ في المجال الجغرافي الذي يتضمّنها. بما تعنيه تلك السيادة هنا من قوّة عليا تصدر الأوامر وتبتُ في جميع المواضيع المتعلقة بجماعةٍ معينة، وخاصة تقرير المصالح المرتبطة بالتحالفات أو الصراعات مع الجماعات الأخرى.

فكلّما كانت الذات الجماعية، ممثلة في أيّ تشكّلات اجتماعية تقليدية، مالكةً للأرض زاد ذلك من قوّتها وأهميتها في المجتمع العام، لأن ملكية الأرض، بالنسبة لذاتٍ جماعية بدوية في ذلك السياق، ترتبطُ بامتلاك كل ما تقوم عليه تلك الأرض من إمكانياتٍ رعوية وطبيعية ستكون ذات أهمية كبيرة بالنسبة للمالك الجماعي الذي لا ينفصلُ وجوده البدوي، بأيّ طريقةٍ من الطرق، عن إمكانات عيشه التقليدية. بذلك فملكيةُ الأرض تتضمّن فوائد كثيرة، من شأنها أن تهمَّ المالك وترفع من قيمته الاقتصادية والرمزية، وذلك بوصفها مكونًا شديد الأهمية في "الجاه" عند المجتمع التقليدي الذي يحتوي على مجموعاتٍ قبلية وعشائرية تتصارع من أجل التمدّد والسيطرة في ظل انعدام سلطةٍ مركزية عمومية.

تاريخ من الصراع
يرى يحيى ولد البراء في كتابه "ملكية الأرض في موريتانيا-أبعادها السياسية والاجتماعية" أنّ مشاكل الصراع حول ملكية الأرض في موريتانيا مرتبطة بمحددات وتشكيلاتٍ سياسية تتجاذب الشرعية والسيادة، بالرغم من التفاوت التاريخي. هذه التشكيلات تبدأ من القبيلة مرورًا بالإمارة وختامًا بالدولة المركزية التي تبدأ بإحكام قبضة سلطتها على كل شيء.

وقد ولّد ارتباط مطلب شرعية ملكية الأرض بهذه التشكيلات السياسية، صدامًا داميًا تبدو آثاره واضحة في جسم المجتمع الموريتاني، وبحسب ولد البراء، فإن آثار ذلك الصراع ما زالت شاخصة في لا شعور أغلب سكان البلاد، إذ النتائج الناجمة عنه قد "حدّدت موازين القوى بين الأطراف المتنازعة، وميّزت شكل علاقات الإنتاج، ومؤشّرات المستوى المعاشي والاقتصادي لدى الجميع".

لطالما كانت ملكية الأرض في موريتانيا مرتبطة، في السياق الأعم، بصراعاتٍ حادّة يسحق فيها طرفٌ ما طرفًا آخرَ، من أجل تأكيد أحقية امتلاكه للأرض بدلاً من غيره، فمن خلال وقائع صراعٍ كثيرة، مرّت بها البلادُ سابقًا وحاضرًا، فإنّ الصراع حول ملكية الأرض قد شكلَ دومًا جزءًا كبيرًا من تاريخ التعامل معها، خاصّة أن أطراف التعامل هي هنا مجموعات قبلية متصارعة ومتنافسة في سبيل تأكيد وجودها المتميّز على حساب بعضها البعض، مهما كلّف الأمر. لكن الخيار أحيانًا ينحصر في اللجوء إلى مصالحةٍ يرعاها العرف الاجتماعي المعتبر أخلاقيًا، خصوصًا في بعض الحالات التي تكونُ الملكية فيها قائمةً على شرعيةٍ تاريخيّة معروفة.

القبيلة كائنًا موازيًا للدولة
على الرغم من ظهور دولةٍ مركزيّة في موريتانيا إلّا أن الشك ينتاب عددًا من المواطنين في إذا ما كانت تلك "الدولة" تستطيع قانونيًا واعتباريًا التصرّف المطلق في جميع مساحتها الجغرافية البالغة 1.030.700 كيلومتر مربع، فبالإضافة لنفوذها القوي في هذه الحالة، ممثلاً في ملكيتها الفعلية جزءًا كبيرًا من هذه الأراضي العامة الحيوية، إلاّ أنّ القبائل الموريتانية المتعدّدة ما زالت هي الأخرى محتفظة بملكيتها العرفية للأراضي، إذ إنها تعملُ على ذلك الأساس في داخلها، وكأنها في حالةٍ من اللّامبالاة إزاء أيّ واقعةٍ حديثة كالدولة.

يعود أقرب تاريخٍ لملكية القبائل للأراضي في موريتانيا إلى بداية زمن الاستعمار الفرنسي، فقد قام بتقسيم الأراضي بين القبائل سعيًا منه لتحديد مجالها الجغرافيّ حتى تسهلُ السيطرة عليها. وعندما قامت الدولة الموريتانية لأوّل مرّة كانت القبائل في موريتانيا مسيطرةً على جميع الأراضي، وذلك ما خلقَ أزمةً كبيرة في سبيل تمدّدها الرسمي، تمّت مواجهتها لأولّ مرة، بشكلٍ مباشر، عام 1983عندما صدر قانون إصلاح عقاري يهدفُ إلى إلغاء سيطرة القبائل الكلية على الأراضي الزراعية حتّى تستفيدُ منها الطبقات المهمّشة.

لم تستطع السلطات الموريتانية تطبيق ما أقرّ به ذلك القانون، خصوصًا في ظلّ تنامي الظاهرة القبليّة بعد الانقلاب العسكري في عام 1984، فالقبائل بقيت تستحوذ دومًا على عددٍ هائلٍ من الأراضي في وقتٍ تجري فيه صراعاتٌ شديدة بينها وبين الدولة أيضًا في بعض الأحيان. ولعلَّ مما يؤكّد ذلك هو رفض بعض الجهات القبلية، من حينٍ لآخر، تنفيذ مشاريع رسميّة عمومية على الأراضي التابعة لها.

المصدر : "العربي الجديد"