الصفحة الرئيسية > ثقافة > إضاءة على الحركة الشعرية في موريتانيا

إضاءة على الحركة الشعرية في موريتانيا

الثلاثاء 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011


المختار السالم —

يمثل الشعر هوية وطنية بالنسبة للموريتانيين.. فالإنسان الموريتاني الذي وصل البلاد في فترات متفاوتة قادما من المشرق العربي، (بالذات نجد والحجاز، واليمن) ثم من “المهجرين” من الأندلس و”النازحين” (الرحل) من المغرب، اتخذ الشعر وسيلة يعصم بها “هويته” وهو يؤسس حضارته في أبعد الأقاليم العربية غرباً.. هذا الهوس بالشعر “إنتاجا واستهلاكاً” لم ينج الحركة الشعرية في موريتانيا من صفة “الحلقة المفقودة من الأدب العربي”.. وجراء عوامل كثيرة، من بينها القطيعة مع التطور الحاصل في المركز، وحتى القطيعة الداخلية، لا تزال صورة الحركة الشعرية في موريتانيا تتسم بالضبابية الشديدة.. في هذا الموضوع نفتح المجال لخمسة من أبرز الشعراء الموريتانيين ليسلط كل منهم الضوء من زاويته الخاصة على الحركة الشعرية في موريتانيا: أبرز تياراتها والأصوات المؤثرة فيها.

نبدأ بالشاعر أحمد ولد عبد القادر، رائد الأدب الموريتاني الحديث، والذي يقول “بداية أنا دائما أقول إن النقد ليس مهمة الشاعر، فللنقد أصحابه، وأرى أن الحركة الشعرية في موريتانيا هي وليدة المحظرة (وهي المدرسة البدوية التي تخرج منها العلماء والأدباء الشناقطة)، والمنهج الدراسي في المحظرة قائم على قراءة القرآن الكريم إلى جانب دواوين الشعر العربي ما قبل النهضة.

وقد بدأت هذه الحركة بالاتصال بحركة الشعر العربي الحديث متأخرة في سنة 1964 بالتحديد.. حيث بدأ التواصل مع الحركة الشعرية في المشرق العربي بدءا بدواوين أحمد شوقي، وجبران خليل جبران، والبياتي، ونازك الملائكة، وبدر شاكر السياب ومحمود درويش.. وخلال الفترة التي تلت ذلك شهدت الحركة الشعرية في موريتانيا قفزة كبيرة نحو الحداثة، ويمكن القول اليوم إن جميع تيارات المدرسة الشعرية في المشرق العربي موجودة في موريتانيا باستثناء “قصيدة النثر” التي لم تجد صدى لها في موريتانيا رغم أن شعراء هذه القصيدة، وخاصة إبراهيم ولد عبد الله، كتبوها بشكل جميل، إلا أن الساحة لم تتقبلها.

وفي الوقت الراهن هناك جيل واسع من الشعراء الشبان المميزين والذين يكتبون بأساليب مختلفة، ويتبعون تيارات شعرية متعددة، إضافة إلى الشعراء الكبار، وهؤلاء الشعراء الشبان في اعتقادي لحقوا بالمنهج الشعري المتعدد الوجوه على مستوى الوطن العربي.

وأعتقد أن غياب وسائل النشر، حيث لم تعرف البلاد بعد حركة نشر أدبية، أثر كثيرا في الساحة الشعرية ومنع الاطلاع على الكثير من التجارب الشعرية في هذا البلد، ما حد من التواصل داخليا وخارجيا بالنسبة للحركة الشعرية في موريتانيا.
وبالنسبة لجوانب الحداثة في هذه الحركة، ومن دون أن ننسى ما أصبح متاحا أن يتلقف في الساحة الموريتانية من إنتاجات أدبية وافدة من الأقطار الأخرى، فإن عمر كلية الآداب في جامعة نواكشوط لا يتجاوز عشرين سنة، ولهذا بطبيعة الحال دور مهم، لكن مع ذلك فإن الحركة الشعرية في البلاد التحقت بركب المشرق، ومع مرور الوقت، وتوفر وسائل النشر والاتصال، فإنني متفائل بأن في البلد طاقات شعرية لها مستقبل واعد كثيرا”.

ويعتبر ولد عبدالقادر “أن غياب حركة نقدية في البلاد في المراحل الماضية أثر كثيرا في الحركة الشعرية في البلاد، فالنقد متأخر كثيرا عن هذه الحركة لغيابه أصلا، وإن كان بدأ في الآونة الأخيرة بالظهور وبدأ يقترب من مواكبة الحركة الشعرية”.

ويرى الشاعر ناجي محمد الإمام أن “أبرز تيارات الحركة الشعرية في موريتانيا هم المحافظون شعرياً.. وهي مدرسة اتباعية خليلية ولكن منذ الثمانينيات إلى يومك هذا أصبح بالإمكان تحديد ثلاثة تيارات رئيسية: التيار الحداثي الذي أثبت جدارته في المدرسة المحافظة وتميز فيها ولكنه بفعل عامل التطور الذاتي ارتقى إلى مصافي الحداثة بما أسميه الحداثة الأصيلة. يكتب رواده القصيدة الحديثة بمعنى قصيدة التفعيلة ولكنهم أيضا يكتبون القصيدة العمودية الحديثة أي يحافظون على القالب الموروث ويبدعون بحداثة كاملة تكثيفا ورمزا ورؤى. ومن هؤلاء أحمد ولد عبد القادر، ومحمد ولد الطالب، على سبيل المثال لا الحصر.

ثم مدرسة الحداثة الشابة وهم نفر من الشباب يكتبون بشعرية ممتازة حداثيو الشكل والمضمون ولن أسمي أحدا منهم كي لا أؤثر أحداً على الآخر. فهم مدرسة واعدة.

وهناك المدرسة التقليدية وهي مدرسة الجزالة والموقف والموقع والمحافظة على الموروث في أنبل تجلياته. وعلى رأسها يتربع العلامة الرمز شيخي وشيخ اللغة العربية محمد سالم ولد عدود أطال الله بقاءه ومتعنا به.
ولهذه المدرسة ينتمي الشاعر المبدع الباحث الخليل النحوي، والشاعر المناضل محمدن ولد إشدو، وإليها ينتمي الشاعر الوحدوي الكبير كابر هاشم، والشاعر المفلق محمد الحافظ ولد أحمدو، والمرحومان المناضلان الشهيدان فاضل أمين ومحمدي ولد القاضي.

خريطة مصغرة

وقال الشاعر ببهاء ولد بديوه: الناظر إلى الشعر الموريتاني مشهدا، ومسار تطور، يجده يمثل خريطة مصغرة لجغرافية الشعر العربي منذ النشأة إلى اليوم، من دون أن نلغي الخصوصية التي تضفيها طبيعة المكان والمجتمع على هذا الشعر. فقد بدأ الشعر الموريتاني منذ أربعة قرون متأثرا بالشعر العربي القديم. وتراءت فيه ظلال عصور ذلك الشعر وتياراته المختلفة عبر الزمان والمكان بشكل متزامن. هكذا نجد الشعراء يتوزعون فيما يحتذونه نموذجا فنيا بين النموذج الشعري الجاهلي وامتداده في العصر الإسلامي والأموي، من امرئ القيس إلى ذي الرمة، وبين النموذج الذي أخذ ينزع إليه الشعر العربي في العصر العباسي ووصل إلى أوج اكتماله مع المتنبي. هذا بالإضافة إلى ما كان من امتداد الشعر العربي في المكان وأثر بيئة ذلك المكان فيه مثل الشعر الأندلسي. كل هذا التراث الشعري وما توالد فيه من اتجاهات وأساليب فنية تلقفها الشعر الموريتاني وتعالت أصداؤها فيه أساليب ورؤى، وظلت تعتمل فيه على شكل اتجاهات أو نزعة فنية لدى هذا الشاعر أو ذاك. حتى النصف الثاني من القرن العشرين؛ حيث أخذ الشعر الموريتاني، ينفتح ليس فقط على الشعر العربي الحديث، وإنما على شعر العالم من خلال جسر الترجمات التي أنجزت باللغة العربية، أو من خلال جسر اللغة الفرنسية، مما كان رواء ظهور ما يمكن أن نسميها اتجاهات أو حركات “تجديدية” و”حداثية”، مع التنبيه إلى أن نمو هذه الاتجاهات أو الحركات كانت تحيط به الكثير من المحبطات منذ ظهور الدولة الموريتانية الحديثة التي اتسمت منذ نشأتها وحتى اليوم بضعف التخطيط في ما يتعلق بالاستشراف المستقبلي، فكانت الثقافة بشكل عام والشعر بشكل خاص هما أول ضحايا هذه الوضعية.

ومع ذلك فقد ناضل الشعراء الموريتانيون نضالا مؤلما من أجل أن يبقى الجوهر الشعري حيا في الروح الموريتانية التي يمثل شخصيتها ونسغها الغيبي من خلال تطويره في مسارات يغلب عليها الاتجاه التقليدي. وإن بدأت تعلو فيه منذ العقود الأخيرة من القرن العشرين إلى اليوم أصوات تجديدية وحداثية لعل من أطولها مدى الشاعر أحمد ولد عبد القادر الذي يمثل الشباب الدائم للشعر الموريتاني الحديث وناجي محمد الإمام وكابر هاشم والخليل النحوي، وعبد الله السلم ولد المعلي، والمرحوم فاضل أمين، ومحمد الحافظ ولد أحمدو، هذا بالإضافة إلى الشعراء الشباب: محمد ولد عبدي وأبوشجة، وإدي ولد آدبه ومحمد ولد الطالب والمختار السالم أحمد سالم.. وكثيرون غيرهم لا يسع المقام حصرهم.
هذه الأصوات التجديدية والحداثية، التي هي نتاج الشعر العربي في مختلف العصور، كما هي نتاج خصوصيتها الثقافية الضاربة الجذور في عمق الثقافات الإفريقية والصنهاجية، يصعب القول إنها خرجت كليا من سِلْخها التقليدي الذي لا يزال للمتلقي دوره القوي في إبقائه راسخا على المتن الشعري الموريتاني. كما يصعب القول إن حصيلتها شكلت ما يمكن اعتباره تيارات شعرية لها سمة وزخم جماعيان، بسبب غياب التجمعات والنوادي أو عدم فاعليتها، وبسبب ضعف المواكبة النقدية وانعدام وسائل النشر. فالغالب على سرب الشعراء الموريتانيين هو التغريد المنفرد أو الغناء مع الصوت العابر من وراء الحدود، وليس ذلك بغريب في عالم أصبح يقترب فيه البعيد، ويبتعد فيه القريب.

ويرى الشاعر محمد ولد الطالب أن “موريتانيا أرض بكر في كل شيء، وتاريخها مع الحركة أزلي، فكل شيء هنا متحرك ومتحول بدءا من ألسنة الرمال إلى الأسماء إلى معالم الأشياء، ربما تكون تلك ضريبة الجغرافيا القاسية التي فتحنا أعيننا عليها ذات مرة..

والحركة الشعرية في هذه البلاد لم تعرف التوقف حيث ظل الشعر زادا وأحاديث سمر وبوق نفير وذاكرة للعلوم في جانبه النظمي. لقد كان كل شيء.. وكانت صفة ما خف محمله وغلا ثمنه ألصق به من غيره.
ولا شك في أن بيئة يركب رجالها الناقة، ويبرون النبال، ويسكنون تحت الخيام، ويطاردون سراب الماء والمرعى على شحهما، ستسم أهلها بميسم يخاله البعض تقليدا للجاهلية مع أنه أقرب إلى توارد الخواطر والبيئات منه إلى التقليد الأعمى، تلك هي بداية القصيدة العربية حداء ووقوفا على أطلال اختزنت كثيرا من الذكريات، وهذه هي بداية القصيدة الموريتانية أيضا.

وإذا كان إخوتنا في حقل الجغرافيا يرون التيار الكناري نعمة ونقمة على هذا البلد، في جلبه للأسماك وحجبه للأمطار، فليكن الله في عون النقاد حتى لا تقتلع قبتهم النقدية كثرة التيارات الشعرية في موريتانيا المنفلتة من كل عقال.
وقد لا أجانب الصواب أن هذا السؤال الذي تتفضلون به ما زال هو الآخر بكرا، حيث لا يحضرني أنني اطلعت على مثله في ما كتب حتى الآن عن الحركة الشعرية في موريتانيا. حيث ما زالت الأقلام منشغلة ببيضة ودجاجة الأصالة والمعاصرة وإذا راوحت هذا المكان فإلى الحداثة مع الكثير من الخجل والتحفظ، وفي اعتقادي الصرف الذي لا أدري على ماذا أبنيه فهناك ما يمكن إذا شئتم أن نتفق على تسميته بتيار النظم الذي اقتضته ظروف المنهج التعليمي البدوي ولم تحرس البرزخ بينه والشعر حتى لا يبغيان في لا وعي الشاعر الموريتاني. وأذكر أنني في بداياتي الشعرية وأنا طفل صغير كنت أقلد الأنظام الفقهية والنحوية في مكتبة والدي ظنا مني أنها شعر، ومع الأيام أدركت أنها بلا طعم ولا لون وأن الشعر شيء آخر مختلف جدا.. هذه مدرسة النظم التي لا يكلف أهلها أنفسهم أكثر من كلام موزون مقفى دل أو لم يدل على معنى.. وهي منتشرة في البادية والأرياف وهاجرت في حقائب البعض إلى المدن.

أما التيار الثاني فيمكن أن نصطلح عليه بالتيار الكلاسيكي، وهو عبارة عن شعراء رواد عايشوا نشأة مدينة نواكشوط حين كانت ورشة فن معماري فحاولوا أن يفتحوا ورشة شعرية تليق قصائدها بمدينة ذات شوارع وشجر وشاطئ وسيارات وإشارات مرور.. وقد نجحوا في اعتقادي في خلق قطيعة بين البداوة والحضارة في خيال الشاعر، فقد ألبسوا القصيدة البدلة الرسمية واحتفظوا لها في المتحف بجبتها أو شملتها البدوية، فطرقوا كل الأبواب وتناولوا جميع مجالات الشعر الكلاسيكية وحذت نعالهم نعال شوقي ومطران وحافظ والجواهري والبردوني.. ولم يكتفوا بذلك فتسلل بعضهم إلى الرومانسية عندما داعبت نسمات المحيط الأطلسي الأولى أغصان شجر نواكشوط الفتي.. ومنهم من راد قصيدة التفعيلة كشاعرنا الكبير أحمد ولد عبدالقادر، وشاعرنا الرائع ناجي محمد الإمام، ومحمد الحافظ ولد أحمدو، وكابر هاشم، وباتة بنت البراء، والمرحومة خديجة عبدالحي.

ويأتي التيار الثالث، التيار الجديد، الذي أنا من ضمنه، وهو شعراء شباب استفادوا من كل التيارات التي سبقتهم، فتعلموا اللعب مع الزوابع في هذه الصحراء، حاولوا فك ألغاز الأشياء من حولهم، وكانوا حداثيين بالطبع، مسكونين بهواجس القصيدة الرافضة التحجيم في القوالب الجاهزة، متصالحين مع أي شكل ما لم يكن على حساب المضمون والصورة والرمز.. يؤمنون أنه لا يوجد شعراء ولدوا وقد كتب على جبين كل واحد منهم أنه حداثي، ومؤمنون أكثر أن الحداثة ليست قضية جغرافيا ولا تاريخ ولا لغة، بل هي تجريب وإبداع في متناول الجميع.. ومن أبرز قادة هذا الجيل ببهاء ولد بديوه، بدي ولد أبنو، محمد ولد عبدي، محمد ولد أعليه.

مناهج عدة

في الوقت الراهن هناك جيل واسع من الشعراء الشبان المميزين والذين يكتبون بأساليب مختلفة، ويتبعون تيارات شعرية متعددة، إضافة إلى الشعراء الكبار، وهؤلاء الشعراء الشبان في اعتقادي لحقوا بالمنهج الشعري المتعدد الوجوه على مستوى الوطن العربي.

البداية

لا شك في أن بيئة يركب رجالها الناقة، ويبرون النبال، ويسكنون تحت الخيام، ويطاردون سراب الماء والمرعى على شحهما، ستسم أهلها بميسم يخاله البعض تقليدا للجاهلية مع أنه أقرب إلى توارد الخواطر والبيئات منه إلى التقليد الأعمى، تلك هي بداية القصيدة العربية حداء ووقوفا على أطلال اختزنت كثيرا من الذكريات، وهذه هي بداية القصيدة الموريتانية أيضا.

جنرالات الشعر

الشاعر سيدي محمد ولد بمبا فيقول “أعتقد أن الساحة الشعرية الموريتانية الآن تمر بحالة انتقال.. مرحلة بنوية.. مرحلة ما بين التأقلم مع المحدث أو الحداثة، فالتيارات الشعرية الآن تحاول أن تنصهر في تيار واحد رغم صعوبة الحوار ما بين الجيل القديم والجيل الحديث.

وهذه الساحة فيها مرحلة من أسميهم بجنرالات الشعر، طبعا تسمية دعابة وليست تسمية قدح، فهناك أسماء موريتانية كبيرة في الشعر بعضها استطاع أن يتأقلم مع التطور الحاصل في الشعر العربي إلا أن المشكلة الأساسية عندنا هي أننا ما زلنا نعيش في قالب الشكل.. الصورة أصبحت صورة نحتية، والتناول أصبح تناولا نقديا حتى في الشعر.. لا أريد أن أدخل في المجال النقدي، لكن فقط استطرادا، الشاعر لم يعد ذلك الذي يشعر بحالة ثم يكتب النص ويلقيه على علاته بالتأثر أو بالارتجال..

الشاعر أصبح يكتب بوعي الناقد.. وما زلنا نحن بعدين جدا عن هذه المرحلة.. الشاعر العربي الآن يكتب وهو واع بأدوات نقده، شاعر مثقف، لم يعد شاعرا فقط يخاطب الروي والقافية.. أصبح شاعرا يخاطب الثقافة والهوية واللغة.. وهذا ما يسمى اعلان موت الكاتب، ليس هناك ما يسمى شاعرا، أصبح هناك ما يسمى نص شعري.

المختار السالم