الصفحة الرئيسية > رأي > كل "الرصاصات" كانت ضرورية..

كل "الرصاصات" كانت ضرورية..

الخميس 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012


بقلم : محمدو ولد البخاري عابدين

من بين ما يطالعك به بعض الكتاب- أو الهواة- هذه الأيام، ما قد يدفعك لمناقشته انطلاقا من إحساسك بأن ما كتبه بعضهم هو وجهة نظر صرفة، صاحبها صافي البال من أية مؤثرات أخرى تدفعه للكلام "أعل الغرض" وإنما رأى وقال: هكذا كان ينبغي أن يكون بدل ما كان..

فهذا الصنف من أصحاب الآراء قدم له رؤيتك واترك بينه وبينها كما فعل هو، أما الكتابة المنتجة حسب الطلب، والتي تحدثك كل جملة فيها وكل فاصلة وكل نقطة بأنها كتبت خصيصا لتحقيق هدف غير نزيه ولا نبيل، فهذه إن شئت رد عليها وإن شئت دعها للواقع واللأيام، فهما كفيلين بالرد عليها وتفنيدها بشكل أقوى مما كنت ستقدمه.

ومن بين هذه الآراء التي أكسبتنا الأيام والأحداث خبرة في تمييز أصحابها والمهاميز التي تدفعهم لإبداء آرائهم، ما قرأته لأحدهم بعنوان " أربع رصاصات في ظهر الرئيس.." رآى من خلاله أن ما أصاب الرئيس فعلا هو " رصاصات " التعامل رسميا مع حادثته، مبينا أن تصريح وزير الاتصال، وكلمة الرئيس على سريره في المستشفى، وصورته مع وزير الدفاع الفرنسي وخطاب العيد، كلها كانت هي الرصاصات الفعلية التي إن لم تسل دماء الرئيس، فإنها أضعفته سياسيا أمام الرأي العام، وأظهرته بمظهر العاجز عن القيام بأي دور مستقبلي.. وليسمح لي هذا الأخ بأن أقول إنني أرى العكس تماما، فتصريح وزير الاتصال كان ضروريا حتى وإن اعتبره البعض غير دقيق، وهذا معتاد في مثل هذا النوع من الحالات المفاجئة التي يكون لا بد فيها من تقديم معلومة أولية للرأي العام، ولكل أجهزة الأنظمة في العالم أساليبها التي تتعامل بها تدريجيا مع الأحداث المباغتة، مراعاة لأمور أخرى نقدرها ولا نتوق إلى سبر أغوارها.. المهم أن تصريح الوزير علم من خلاله الموريتانيون أن صحة الرئيس ليست في خطر وهو ما تأكد بعد ذلك.
تصريح الرئيس على سريره: تصور أخي ما ذا كان سيكون تصورنا عن الرئيس وصحته بل وجوده لولا ذلك التصريح المصور- الذي وإن كان على سرير- فإن صاحبه يتكلم بوضوح ويروي تفصيل ما جرى له ! كلنا كنا سنقول إن آخر عهد لنا برؤية الرئيس، هو يوم الخميس الذي سبق إصابته وهو جالس بين الوزراء في اجتماعهم الاسبوعي، وما عدا ذلك فلا يسألنا أحد عنه.. ولا أعتقد أن أحدا في موريتانيا يعتقد أن الرئيس جسما مصفحا، أو كائنا معقما ضد كل الطفيليات ومسببات الأمراض، أو زرافة لا يمس ظهرها التراب.. فهو إنسان مثلنا جميعا نصاب ونمرض ونتعافى، ولو كان يرغب في إحاطة نفسه بتلك القداسة أو الحصانة من أي موقف ضعف قاهر، لما بادر إلى الظهور في تلك الوضعية، كما أن القوة تزداد معنى كلما سبقها ضعف.. ولذلك أعتقد أن الرئيس سيعود أقوى في نظر مواطنيه بعد أن أعترف مناوؤوه- ولو في أنفسهم- قبل مناصريه بشجاعته ورباطة جأشه وهو يدخل المستشفى سيرا على قدميه " ينكص ابدمو " ويحيي من وجدهم أمامه، ثم يروي تفاصيل حادثته ويحمد الله وهو لم يخرج بعد من مضاعفات الجراحة والتخدير.. فلا أعرف كيف كان سيكون الموقف لو كان المصاب شخصا آخر، ربما كان سيستلقي في مكان إصابته ويطلب الإسعاف هناك، إسعاف قد لا يسعفه حين يكمل الجبن و " الخلعه " ما بدأته الرصاصة..!

صورة الرئيس رفقة وزير الدفاع الفرنسي: هذه الصورة ترد على القلق الذي سببته شيئا ما صورته على السرير.. الرئيس تكلم وظهر للعلن بعد خروجه من المستشفى العسكري، وهو حي ويتمتع بكامل قواه العقلية لكنه كان مضجعا على سرير، لتأتي صورته واقفا إلى جانب زائره الوزير، إذن فكل الأعضاء التي تمنع المصاب من الوقوف إذا كانت مصابة كالقدمين والرجلين والعمود الفقري والدماغ سليمة، صحيح أنه ظهر شاحبا، لأنه إنسان مصاب وبدون أكل ولا شرب منذ أربعة أيام، وليس شخصا خارجا للتو من عند الحمام والتدليك والحلاق استعدادا للذهاب إلى حفلة.. وهنا أيضا يحرص الرئيس على الإستجابة لتطلعات من تركهم وراءه من أفراد شعبه، متأكدا من أنهم يتمنون رؤيته واقفا حتى ولو كان شاحبا.. وهم في نفس الوقت أفراد الشعب الذين يستخدم البعض اليوم الباطل في " جل الحق " ويقول إن الرئيس يحتقرهم بعدم إعطائهم أي خبرعن صحته! فكل هذه التصرفات قد يبدو لك أنه كان لا ضرورة لها، لكن انظر إليها من زوايا أخرى فسيتبين لك أنها كانت ذات مغزى، وأن القلق والحيرة والشكوك كانت ستكون أعمق، وأن والشائعات ستكون أشد فتكا من دونها. ونفس الشيء بالنسبة ل " رصاصة " رسالة العيد كما أسميتها، والتي وإن كانت أقل ضرورة باعتبار عيد الأضحى ليس من المناسبات التي يخاطب فيها الرئيس شعبه، إلا أنها رسالة تواصل وطمأنة من شخص قام بكل ما يستطيع لطمأنة القلقين حقا على صحته، دون أن يستفزه الإلحاح غير البريء للآخرين، فأصحاب القلق المتعلق بصحة الرئيس نوعان، قلقون على تدهور صحتة، وقلقون من تحسنها، ولا عبرة بإظهار عكس ذلك وما من منخدع به..

لقد هونت- أخي- كثيرا من نوعية السلاح الذي أصاب ما يعرف عندنا بالإعلام المستقل، في تعامله مع حادثة الرئيس وما اتصل بها، خاصة ما يعرف منه بالمواقع، حين قلت إنه أصيب برشاش، في حين أنه أصيب بسلاح دمار شامل نسفه عن آخره، ولم ينجو منه سوى موقعين أو ثلاثة على الأكثر ظهر أنهم كانوا مستعدين لأي طارئ، مسلحين جيدا ب " كمامات وسترات وقفازات وملاجئ " المهنية والموضوعية والمصداقية والحياد..عاضين عليها بالنواجذ، ولن يجد الجميع صعوبة في تحديد تلك المواقع دون أن نسميها لأنها معروفة..أما البقية- وبدون اشتثناء- فقد أضحت رمادا وركام أخلاق بعد هذه الحادثة التي تكفلت عنا بعناء تقييم تجربة الإعلام الحر بعد أول امتحان، ليتبين أن كل ما بذله أهله من تضحيات وكلما وضعته السلطات من قوانين وتحسينات، كان الهدف منه إيجاد آلية لتصفية الحسابات عن طريق وسائط إعلامية ناطقة باسم جهات سياسية وتقول إنها مستقلة، ووسائط ناطقة باسم أشخاص يقولون إنهم حياديون، بينما كل ما صدر عن هذه الوسائط يفند وينسف ما تدعيه، فهذا له حساب من نوع ما مع مدير الديوان فيسابق الزمن ل " خرطه عن لعظام " وهذا عنده مشكل مع السفير وينتهز الفرصه- كونه إلى جانب الرئيس في المستشفى- للنيل منه، فتارة طُرد من هم حوالي الرئيس وتارة كان هو المطرود، وذاك عنده تحسس من وزير الاتصال أو أحد مديري الإذاعة أوالتلفزة أووكالة الأنباء فيستغل سقطاتهم بسقطات أشنع، وألائك لهم شخصيات ينهمكون في تلميعها وتقديمها كبديل لنظام لا يزال قائما " راصو حبه " ويلتقطون- من الهواء- مواقف دولية داعمة لهذا الشخص البديل! أما من لهم حساسية حادة أو مزمنة مع الرئيس أو أحد أقاربه أوالوزير الأول والوزراء أورئيس الحزب الحاكم أورئيس الجمعية والوطنية أوالجنرالات، فلم يفوتوا الفرصة لتركيب " شعبيطه " في كل واحد منهم وضرب بعضهم ببعض، وبأي وسيلة؟ عن طريق الاعلام المستقل الذي تتفنن كل جهة من جهاته في انتقاء كل ما وقعت عليه عينها من مصطلحات المهنية والمصداقية والموضوعية والدقة والحياد.. مع الخلو البين للمضامين من كل هذه القيم! وعلامة التعجب هنا قد لا تكون في محلها، إذا انطلقنا من أن إعلاميينا ليسوا سوى أبناءنا، فقد جئنا للمدينة دون أدنى رصيد مدني، ولذلك نتبول في الشارع ونعرقل المرور ونتخطى إشاراته، ونربي الأغنام في بيوتنا، حصلنا على السيارة قبل معرفة التعامل معها ولذلك تحصد يوميا أرواحنا وقوانا وممتلكاتنا، حصلنا على حرية الإعلام والتعبير دون أدنى بنى تحتية مادية أو بشرية فانطلقنا من " فم اسبع " لفتح معامل لسلخ الأعراض ونكأ الجراح، نثرثر على أهوائنا، ونتلمس بحثا عن أي " دكة شوكة " قديمة للبناء عليها كالقيح والصديد دون مثقال ذرة أخلاق أو معايير! ومن حسن حظ الإعلام المستقل أن نسبة القراء في بلادنا لا تتجاوز 0.02% كي لا تتسع دائرة المطلعين على عوراته وسوقيته وهزاله. فلا يحدثنا أحد بعد اليوم إذن عن صاحبة الجلالة إلا إذا كان يقصد ملكة فرعونية محنطة منذ آلاف السنين، ولا سلطة رابعة إلا إذا كان يقصد سلطة غاب لا يوجد فيها من سلطات غيرها.. والغريب أن الجهات المنظمة لهذا الإعلام المفترض، من نقابات واتحادات صحفيين لم تحرك ساكنا إزاء هذا الوضع المزري، وكأن هذا الانفلات كان ديباجة مسطرة ومصادق عليها في نظمها الأساسية والداخلية، أو كأن ما أصم آذاننا من ورشات تكوين حول المهنية والمصداقية وأخلاقيات المهنة، لم يكن سوى تكوينا على تقنيات إنتاج وتعليب وتسويق وتصدير الشائعات والنسج " من تحت الصفه " ! تقيم هذه النقابات الدنيا ولا تقعدها إذا تعرض منتسب لها لأي إهانه لفظية أو جسدية، بينما تنام ملئ جفونها إذا تعرض وطن كامل برموزه، ومؤسساته، واستقراره، ومشاعر ومصالح وقيم وأخلاق شعبه لأبشع الإهانات والطعنات! أي عذر أقبح من ذنب ذلك الذي يجعل صحفيا حقيقيا يلجأ إلى الشائعات بحجة أنه لم يجد تأكيدات من جهات رسمية؟! هنا يظهر الفرق الشاسع بين الهواة والمحترفين ممن ذكرناهم على قلتهم، والذين- كالآخرين- لم يحصلوا على أخبار رسمية فنشروا ما تأكدوا منه وأعرضوا عن ما سواه، والمشكل أنه لا أمل في تحول الهواة- تلقائيا- إلى مهنيين محترفين! قضية مضحكة أخرى، هي أن كل ما صدر ويصدر عن الجهات الرسمية ليس مقنعا بالنسبة لهؤلاء مهما قالت هذه الجهات، ومع ذلك يلجئون للشائعات نتيجة لشح المعلومات الرسمية، وما الهدف؟ شغل الفراغ! ألمن سيحدثنا غدا عن صاحبة الجلالة والسلطة الرابعه ومهنة المتاعب ممن يشغل الفراغ بالتلفيق وجه يقابلنا به؟! الجهات الرسمية تعرف جيدا كيف سيقتنع هؤلاء بروايتها، فلا يفصلها عن ذلك سوى أن تعلن لهم أن ماحصل هو " انقلاب أو محاولة اغتيال أو تمرد على الرئيس بفعل سياساته وأنه أصبح من الماضي ولن يعود " لكن لننتظر حتى يكون ذلك هو ما حصل فعلا!
حمل خمسة شبان بالأمس ما أسموه نعشا للمؤسسات الدستورية، لكن ما يجب حمله حقا دون أن يتخلف أحد عن السير في جنازته، وطلب المغفرة له لما اقترفت يداه، هو ما كان عندنا من إعلام مستقل الشواهد والمشاهدات على أنه مات فعلا أكثر بكثير من الشواهد على موت المؤسسات الدستورية، وإن لم يكن مات فإنه جُن والمجنون لا دور له في الحياة، إما أن يعالج ليُشفى أو " يُسلسل " اتقاء لشره وبطشه.. فلا تدعُ- سيادة وزير الاتصال- ل " تأطير الحرية " في ورشة لأخلاقيات الصحافة أشرفت وأشرف من سبقوك على عشرات الورشات مثلها، وتبين أن كل ما اتفق عليه خلالها لم يحترم وذهب أدراج الرياح، بل ضع- إن كنت جادا- معايير وقوانين من حاد عنها تتم مساءلته، و" انعم " فليكن ذلك تراجعا في حرية الصحافة، فهذه بيئة ملوثة آسنة لا تصلح لأن تكون أساسا لأي شيء سوي وسليم، يهضم فيها العابث الهزلي حق المهني الجاد ويطغى عليه ويذوبه ويقزم دوره، في مجال من أخطر المجالات وأشدها فتكا إن هو ترك للأهواء والنزوات، لا للضوابط والقوانين الرادعة والمفعلة.

لسنا من أحزاب أغلبية الرئيس حتى يتصل بنا هاتفيا مطَمئنا، ولسنا أعضاء في حكومته ولا جهازه الأمني كي يصدر لنا الأوامر والتوجيهات ويتشاور معنا في شئون الحكم، ولسنا من أفراد أسرته الملازمين له في مشفاه المطلعين على وضعيته الصحية، لكن لدينا إحساسا كبيرا بأنه شفي وأنه عائد قريبا، ودليلنا علي ذلك- الذي ربما يغنينا عن أي دليل آخر سواء كان اتصالا أو صورا أوغيرها- هو تعجل مناوئيه سياسيا وإعلاميا وشخصيا في التحرك المتخبط لخلق واقع جديد في غيابه لم تتوافر شروطه، ولم يظهر أي مؤشر عليه لا في اللحظات الأولى لإصابته ولا فيما تلاها، ذلك هو ما أعطى الانطباع بأن الأمور طبيعيه، ومن حيث لم يشعر المستعجلون طبعا..

محمدو ولد البخاري عابدين