الصفحة الرئيسية > رأي > تصريحات.. وخطاب خارج الزمن!

تصريحات.. وخطاب خارج الزمن!

الأحد 10 حزيران (يونيو) 2012


بقلم : آمنة الملقبة بندا صو

من المؤسف حقا أن يهبط الخطاب السياسي لدى بعض قادة طبقتنا السياسية إلى مستوى احتقار الضمير الجمعي للشعب الموريتاني أو الاستهزاء بذاكرة وطن بأكمله.. ويصل الأمر بهؤلاء ـ أحيانا ـ حد الافتراء الصارخ والمخجل على تاريخ البلد القريب جدا؛ في تحد سافر لمشاعر شرائح واسعة من هذا المجتمع المسلم المؤمن بالتسامح وروح التعايش السلمي بين مكوناته؛ والحريص على وحدته الوطنية وأخلاقه المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف.

وإذا كان الصدق والوطنية واحترام ثوابت الشعب على تنوع انتماءاته الثقافية والاجتماعية، في طليعة السمات التي يتعين ـ وجوبا ـ أن يتشبث بها أي مواطن في البلد؛ أيا كان مستواه وموقعه؛ فإن ما لا يغتفر ـ تحت أي ظرف كان ـ هو أن يدوس فاعل سياسي في معسكر السلطة أو في صف المعارضة، ممن يطمحون لتبوء موقع ما في مراكز صنع القرار أو تسيير شؤون الأمة؛ على تلك الثوابت الأساسية أو يحاول المساس بها أو القفز عليها..

في هذا السياق تابعت مؤخرا ـ ككثير من الموريتانيين ـ تصريحات الرئيس الانتقالي السابق، (أحترمه مثل جميع من تولوا قيادة موريتانيا في مرحلة معينة)، على أمواج إذاعة "موريتانيد" الخاصة، حين أنكر واحدة من أكثر محطات تاريخنا الحديث سوداوية ومأساوية، بحجم أحداث 1989 الأليمة التي عمل كثير من الموريتانيين الصادقين من كافة المكونات الوطنية، على طي صفحتها عبر العدالة وإنصاف الضحايا وجبر الضرر وإعادة الحق لأصحابه، سبيلا إلى حماية السلم المدني وتكريس روح التسامح والتلاحم والثقة بين كافة الموريتانيين..

تصريحات أساءت إلى كل الموريتانيين، وبخاصة إلى ضحايا الترحيل القسري عن أرض الوطن، وسلب الممتلكات العقارية والمنقولة، ومصادرة حق المواطنة والانتماء لأرض الآباء والأجداد.. كان حديث الرئيس السابق بمثابة طعنات في نسيج الجسم الوطني للأمة الموريتانية الغنية بتنوعها الثقافي والاجتماعي، والقوية بوحدة كافة مكوناتها، والمؤسسة على قواعد التسامح والانسجام الوطني الكامل.. طعنات لا شيء يتيح لمرتكبها أية إمكانية لتبريها أو تأويلها، خاصة وأنه تعمد نكأ جراح غائرة بذل الكثير من الجهود والتضحيات الجسام في سبيل تضميدها وجبرها سبيلا إلى علاجها علاجا دائما ونهائيا..

السعي الأعمى عن طريقة للعودة على السلطة لا يمكن أن يبرر هذا الاعتداء السافر على مشاعر الموريتانيين أو إذكاء دعوات البغض والحقد والكراهية بين الموريتانيين الذين يجمعهم كل شيء ولاشيء يفرقهم.. ومحاولة تأليب الموريتانيين بعضهم ضد البعض لا تمنح السلطة ولا الشعبية، بل صناديق الاقتراع والخطاب الوطني البناء والمقنع، شرط أن يصدر عمن برهن للشعب على مستوى رفيع من الوطنية والحرص على مقدسات الأمة التي تبقى صيانة الوحدة الوطنية والعدالة بين كل المواطنين ركيزتها المحورية الأولى والأخيرة..

لقد ولى زمن الأكاذيب والتلفيق وتزوير التاريخ حين من الله على الشعب الموريتاني برئيس وطني مؤمن بموريتانيا التعددية، موريتانيا العدالة والمساواة، موريتانيا التسامح والتعايش الحقيقي في ظل الحرية وسيادة القانون.. ولى عهد الاستبداد و مصادرة الرأي، والتعتيم على الحقائق واتخاذ الشعارات الجوفاء والدعوات الفئوية والعنصرية خطابا سياسيا وسلما للصعود على قمة السلطة عبر دماء الشعب ومعاناته، حين انتخب الشعب الموريتاني الرئيس محمد ولد عبد العزيز، بناء على برنامجه الانتخابي الذي وجد فيه كل الموريتانيين ذواتهم، وحمل الحلول الشافية والناجعة لمختلف المشاكل المزمنة والحادة التي تسببت لهم فيها عقود من تراكم السياسيات الرعناء وغير العادلة لمختلف الأنظمة المتعاقبة على السلطة في البلد..

حمل الرئيس محمد ولد عبد العزيز ـ بصدق ـ هم موريتانيا الشاملة، موريتانيا الجميع، موريتانيا الجديدة؛ واعتمد الصدق في الخطاب والنزاهة في إدارة أمور الأمة والوفاء بالالتزامات، وفق كل ذلك وضع هموم الغالبية المحرومة والمهمشة والمسحوقة من الموريتانيين على رأس اهتماماته، فكان رئيس الفقراء وحامي الضعفاء وعدو الفساد والمفسدين ومحقق العدل والإنصاف لمن يحاول خصومه السياسيون اليوم، ممن تسببوا في مأساتهم، تضليل الرأي العام الوطني من خلال نكران تلك النقطة السوداء من أفعالهم الجائرة، أن ينكروها ويلبسوا الحق بالباطل.. لكن هيهات ثم هيهات!

إن مسالة إبعاد عشرات الآلاف من الموريتانيين إلى خارج الوطن، سنة 1989، مفروغ منها كحقيقة يستحيل تكذيبها أو نفيها؛ تماما كما هو حال المسؤولين عنها وعن الجرائم التي تلتها، من قبيل الإعدامات الجماعية والانتهاكات حقوق الإنسان (1990 ـ 1991)، فيما بات يعرف بملف "الإرث الإنساني".. ذلك أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز هو من امتلك الشجاعة وتشبع بروح عالية من الوطنية الصادقة، فشرع في تسوية هذا الملف وطي تلك الصفحة المظلمة التي لا يوجد موريتاني واحد يرغب في إعادة فتحها كما يحاول ولد محمد فال وبعض من المسؤولين الآخرين في النظام الذي تسبب في تلك المأساة أصلا..

كانت مبادرة الرئيس محمد ولد عبد العزيز المتمثلة في إقامة صلاة الغائب على أرواح ضحايا مجزرة 1990 ـ 1991، في كيهيدي، خطوة غاية في الأهمية على طريق إنهاء ملف الإرث الإنساني، خاصة وأنها باتت يوما رسميا للمصالحة الوطنية يتم إحياؤه كل عام.. وهي خطوة سبقتها دعوة كافة الجمعيات والتنظيمات الممثلة لضحايا تلك الحقبة السوداء، إلى القصر الرئاسي وتلبية جميع مطالبهم المتمثلة في التعويض العادل للأرامل والأيتام،

وإعادة المسرحين إلى أسلاكهم العسكرية والأمنية إلى الوظيفة العمومية، وكذا منح المتقاعدين منهم كامل الحقوق، بما في ذلك رواتب تلك السنوات الطويلة..

وأخيرا، حرص رئيس الجمهورية على الإشراف شخصيا ـ في مدينة روصو ـ على استقبال آخر دفعة من العائلات العائدة على أرض الوطن بعد عشرين عاما من المنفى واللجوء في الخارج، ليطوى ملف المبعدين، ضمن عملية شاركت فيها وراقبت تنفيذها كل من الحكومة الموريتانية والحكومة السنغالية والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين..

صحيح أن هناك حالات نادرة جدا، يرى أصحابها أنهم لم يحصلوا بعد على كامل حقوقهم، لكن ذلك يبقى ضئيلا جدا مقارنة مع ما تحقق في هذا الإطار، سواء على مستوى إعادة اللاجئين من السنغال أو على مستوى تسوية الإرث الإنساني..

أما تصريحات إنكار الواقع ومحاولات الافتراء وتزوير التاريخ فلا أبلغ من القول المأثور "القافلة تسير ....".

آمنة الملقبة بندا صو